التأطير النصي ( قراءة ثقافية لمجموعة الشاعر عباس باني المالكي )
بقلم : محمد عبد الرضا اللامي
( قراءات في دفتر الجنون )
بقلم : محمد عبد الرضا اللامي
( قراءات في دفتر الجنون )
يعتمد ثراء النص الشعري على وفرة المحمولات الدلالية والعلاماتية التي تؤثر بنحو او بآخر على العملية التأويلية والمؤثرة في الكشف عن مجموعة العلامات التي يتبناها النص عبر فعل التنقيب , الكشف والاكتشاف الذي يفرزه المعنى الظاهر او الباطن . والشعرية الحديثة تحاول جاهدة على انسنة الأشياء , وقلب علاقات الظاهر وجعل ما يستحيل واقعيا لا يستحيل شعريا , بمعنى جعل ما هو غير منطقي منطقيا , بواسطة إشاعة فعل النشاز العلاماتي الذي يربط بين ما تخفيه الدلالات من بعد غير مرئي وما ينبغي معالجته من فائض الرؤية . ولعل مجموعة الأديب عباس باني المالكي تمنحنا لذة في كشف المستور بواسطة مجموعة من الإجراءات السيميائية التي تركز على بنية السؤال والاحتمالات المتوقعة لما ينتجه النص من معان ودلالات متنوعة وعند الغوص في المعاني الدلالية التي تبناها الشاعر في مجموعته الشعرية للكشف عن ماهية البعد الغائي داخل مضمر العنوان لان العنونة التي اعتمدتها المجموعة فيها مقصدية مسبقة تنشد تفعيل مجموعة من الوظائف غير النسقية التي منها الإغراء , الإيحاء , الوصف , التعين والمفارقة لأنه اضمر في داخله غنائية ذات الانزياح الحداثوي التي تجاوزت المباشرة المتمركزة على الذات وعند قراءة الولية لمجموعة الشعر عباس باني المالكي ذات العنوان ( قراءات في دفتر الجنون ) نجد ان الشاعر قد أثث نصوصه بالرؤى والثيمات النابعة من إرهاصات المعاني التي ترسمها منظومة المنهج النصي فمثلا عند وقوفنا عند نصه (الغياب أليك ) لوجدنا ان الشاعر قد رسم ثنائية جميلة لعل ريشة الرسام تعجز عنها فانه قال ( ليس لي اختيار بقدري / فأما أعشق بجنون وإما لا اعشق ) فالشاعر وضع ثنائية ضدية امتلكها فن التعبير الذي استخدم أسلوب مموسق مصاحبا لإيقاع لغوي نسقي , لهذا لعبت اللغة دورا مركزيا لأن ( الأنساق الدلالية ما كان لها أن تكون انساقا سيميولوجية , أو دالة , لولا تدخل اللغة التي تكسبها صفة النسق السيميائي )فالشاعر وضع مرتكزا للعشق وهو الجنون وبهذه الالتفاتة الاسترسالية فهو أشار منطقيا إلى عنوان المجموعة وجعل النص ثلاثي الأبعاد لمشاهدة تفوقاته اللغوية من أي زاوية اتصالية بعدها يشغل الشاعر ايكونات النصوص مؤدلجة مع العنونة لتكون إسقاطات أشارية إلى العنوان يقول ( لكن لا أرى الأشجار حولي / فأين أكون أنا أيها المجنون ) وهذه النصوص هي عبارة عن شفرات ايقونية للعنوان لأنها ذات عمق دلالي ويقول أيضا ( أننتظر كلكامش وجدران أوروك تهدمت / والبرابرة يداهمون روحنا بالزيف والخديعة ) وهنا أطر الشاعر القصيدة وألبسها ثوبها الزاهي لما له من ميزات خاصة يسيّر القصيدة إلى عمق الذوق الإنساني لدى السامع أو القارئ ، وأراه في هذه الحالة قادراً على حبك مسار القصيدة وإقحام الأثر التأريخي فيها لتبرز بوجهها الجميل لدى المتلقي ، كما أنه ينظر إليها على أنها مخلوق بشري يحمل الوفاء والصدق والحالات الإنسانية الأخرى !! لعلاقتها مع تفاصيل الحياة وواقعيتها ، وعليه يتفرد المالكي بتنوع الخطاب لديه حاملاً معه مفرداته الجميلة لبناء صرحه المبدع ويقول في نص آخر ( احفر في ذاكرة الرمل ابحث عن كثبان المعجزة / لا أجد سوى عطش الماء إلى السماء ) هذه النسقية تخضع للزمان والمكان لأن الحدث يستدعي دائما استمرارية المكان وتدفق الخط السيروري للزمن .فالسماء رحم للنجوم والكواكب والمطر , وعملية البحث بين الابن وأمه التي أشار إليها الشاعر متعاضدة في سرعة النزول من ناحية المكان وسرعته غير المحسوبة من ناحية الزمن , أما الكون الذي ستصير فيه الشخصية النازلة هو كون الناس الفقراء الذين يلتحفون الأرض وما تنبت هي عناصر الاستقبال المولودة في كنف المعني التي ولّدها الشاعر وبعد هذه النصوص التي حاول الشاعر عبر انشغاله على إظهار مناطق الكشف التي المحنا إليها في تأثيثه للنصوص التي تمثل الفضاءات المألوفة في المتن التي تركز على السعي الحثيث في التمحور حول أجواء المصاحبة إذ ابتعد عن الخطاب المباشر وتحاول عبر خزين من التجليات الوصول إلى إسقاطات ذات العمق الدلالي لأنه نجح في إبراز مضامين نصوصه باستخدام أسلوب التصعيد الدرامي لتضفي إلى النصوص صورة جمالية منسقة يصعب رسمها لألوانها الغامقة من الداخل الفاتحة من الخارج ولكي يؤطر النصوص بتوشج لغوي أضفى عليها صبغة التفرد الدرامي الجميل فمثلا يقول ( سأغادر كي أعلن موتي فلا جنة تحتويني وأنا شجرة تيبست في ربيع النار / سأعود إلى القابلة الأولى لتعيد لي الموت الآخر من الولادة ) عندما نبحث عن تركيب النسقية الغوي تتداخل فيها الضمائر، عندما أصبح الشاعر والموت رواة ،وهي ثيمة توحي بالتوحد. فالسارد واحد وإن ضمر في سارد ذات تعددية والإحالات تأخذ مجالات قص وحكي تبادلي، يمكن إعتبارها تنويعاً على سياق واحد مشحون بإحتمالية التعدد. فثمة تكرار للوحدات الدلالية في النص، مما يعني تأكيد لحال مفردة، وهذه صيغة سردية ضمنية تتبادل فيها الضمائر ليشرق النص في إطلالة منفردة واحد، وثمة محورية بؤرية للساردين الشاعر والقابلة ، الشاعر يموضع جسده في محور الفعل المولد،لأنه في العالم العلوي، بينما القابلة تموضع تشريح في محورية الفعل المستقبل ، لذا فالثنائية قد فتحت شفرة الإعلان الرمزي الذي أطلقه ، وهو ما يجعل الأفعال ملتصقة مع بعضها لا تستطيع ان تفصل بين فعل وآخر ولان النص في عالم الوهم، فثمة حكاية تصاغ من طرفين هما الراوي العلني وهو الشاعر، والراوي الغائب هو الموت ، وأيضا يقول في نص آخر ( حملت كل الغيم القادم من سمائك في حقائب روحي / لم يمطر فيّ إلا وجع البرد في ليالي الخيبة النهائية من محطات قطار الليل الصارخ بالتوبة ) هذه الثيمة الزمكانية لتوزيع النص تسهل لنا عملية تركيب مشاهدها الدلالية التقنينية ،إننا في مسرح واقعي خيالي ولكن أدواته مناخات حكائية ، وليست شخصيات حقيقية. فالكل ينتظر المطر لكن المطر كان وجعا أما الجمهور كان بانتظار العرض فكان العرض ( قبل إحراق الشموع نفسها انتظارا إلى مجد النجوم في الدروب المؤدية إلى السؤال / عن جدوى المرور على الضوء في آخر هبوطه في شرفة انتظار الأبد / هذا الفراغ أتقن فن التحايل على أرجوحة الرماد الغرق في الأماكن التي أومأنا بها إلى الرحيل ) اشتغلت في هذه النسقية في ظل أدوات الحوار المبطن الذي يكتنز مدلولات رمزية تشير إلى حدث بعيد الإشارة من جانب التقعر التحليلي للدراما المضمرة داخل كنف العبارات اللغوية وثمة خيوط ممتدة من النسقية الموصدة إلى العنوان حيث( الغيم ) هو البؤرة المكانية للنص ومنها ينطلق وإليه تعود الأفعال. ويقول في موضع آخر ( على تابوت أنفاس الورق الأصفر الهارب من قدره إلى أرصفة العزاء / لم يبق غير رقصة ثمالة الكأس الأخير ) النص يحاول زيادة الضغط الحسي بواسطة البنية الدلالية اللونية لكلمة \ الأصفر \ بغض النظر عن التصاقها بالورق من اجل ان تصبح هي العلامة المميزة التي تمتد على مساحة واسعة المليئة بالغموض والأسرار والتي يريد منها ان تتحول إلى حقيقة يتقبلها المتلقي لان اللون يدل على الشحوب والتعب او المرض في بعض الأحيان وبألتفاته جميلة من الشاعر جعل من اللون الأصفر مهربا من القدر فكانت الصورة بهية المعنى ، هنا وضع الشاعر حيثيات تأصيلية لنصه ( يحترق الليل عند مقاهي الانتظار / وأنت تسدلين شعرك بضوء القادم من الشوارع / التي عاشرناها كثيرا عندا كنا نرتقي السلالم / إلى دخان أنفاسنا ونعاس القهوة بين يديك / رمادا انتشى على قدسية أقامتنا ) إذ يستمد الرماد رمزيته من رواسب ما تخلفه النار او ما يتبقى من الإنسان بعد الموت . إذن الرماد هو الهشاشة الروحية , وهو كذلك بنية التحول من مسرى إلى آخر , لهذا قرنه الشاعر بالغموض والإسرار لأن فعل التحول فعل لا يمكن قراءته بنحو آني , إذ يكتنفه الغموض , غموض المسرى وآفاقه غير المعلومة في اقل تقدير . وعلى الرغم مما للنص من تجليات على كل المستويات ألا إننا نرى ان \ الرماد \ مستمر في عملية النقر على جمجمة الحدث من اجل الوصول إلى لب الحقيقة غير العيانية , فيقول في النص نفسه ( كي يطفيء طيفك المنحوت من شرايين الوقت المار على تنفسي / أشعل رمادك وأنام على دفء الحرائق في داخلي / دون انتظار الصبح ... ) فهو أي الرماد والشاعر متمازجان في نفس واحدة . كلاهما يبحث عن حقيقة لم يبينها النص , فحيثما يغيب التوظيف عن المشهد, يظهر الرماد رمزا بسمة الباحث عن الحقيقة , وحيثما يغيب الأثر , يظهر التوظيف باحثا عنها في جوانب كثيرة أولها نفسه التواقة للوصول إلى مقتربات تلك الحقيقة التي هزت مضجعه منذ الصيرورة الأولى كونه جنسا بشريا باحثا عن حقيقة الأشياء وصولا إلى المبتغى الذي ينشده وفي توغل في ثنايا النصوص يقول الشاعر ( كانت تخزن مواويل الفراق على الضفة الأخرى / من عمر آخر عند أرجوحة الوجع الساقط على أثرنا / في حين كنا روحين في جسد واحد او هكذا نعيش )إن استدعاء الشاعر لانزياح النفسي , وسؤاله ألارتيابي يوحي بأن النوافذ لم تكن دائما \ معتمة \ بل أن ثمة أزمنة بيض تعتليها وإلا يفقد السؤال بريقه المطلوب . وعلى الرغم من حصول هذا الاختلاط إلا إن أرجوحة الوجع ظلت تمتلك حداثة لأنها منفتح على أفق الأمل ولو لم يكن كذلك لما حصلت عملية التمشيط الروحي بواسطة الرؤية المهيمنة عبر وسيلة الرؤية البصرية . إذن الخطاب هنا ينتمي إلى المجال البصري الذي يزودنا بمجموعة من المهيمنات والتمظهرات المهمة داخل بنية الخط بصري والذي يتجسد في مجموعة من الفراغات التي تعد عنصرا بنيويا وهو , بعد ذلك , إخفاء يؤدي حتما إلى التأويل , إضافة إلى ما يؤديه الفراغ المنقوط من تضعيف للبنية النصية بسبب من اشتماله على أفق مشتت يحتاج إلى قراءة نسقيه . ووعيا من الشاعر بأهمية كسر المعتاد بنحو تشكيلي متضمن وحدات تركيبية تحمل دلالات حكائية وعلى مستوى رمزية الصوت نلاحظ تقارباً رمزيا في قوله ( تموج الفراديس على الأرض الرخوة كعلامة الطيران / إلى جنة فوق الحلم والخواطر البشرية / فنمسك بأول السماء لنعيد هجرة الطيور ) بين (الهجر) التي وردت و(الجهر) المعروف. في هذا الصدد يتحدث ابن جني كثيراً في كتابه الخصائص عن تقارب الحروف لتقارب المعاني، وتقول بعض الدراسات الحديثة كلما تشابهت البنية اللغوية فإنها تعكس بنية نفسية متشابهة منسجمة ، ألا يمكن أن نقول إن الشاعر المهجور يجهر بموقفه المتمرد ؟ ومما يدعم هذا الرأي ورود حرف الراء المجهور ثمان مرات في النص إحداها في الروي. وقفنا هذه الوقفة مع النص لأنه بمثابة المفتاح للولوج إلى القصيدة ، وأول ما يقرع السمع وبه يستدل الشاعر على ما عنده، كما يقول ابن رشيق.
لهذا نجح الشاعر أيما نجاح في عملية التداخل الحقلي الحاصل بين النصوص والعنوان في بنية دقيقة ورصينة تتمظهر وتتجلى في أكثر من دلالة موحية وتنجح في إسباغ روح البحث والكشف والمشاركة في النص فيما يخص المتلقي , إذ استطاعت العنونة من سحب المتلقي بقوتها الذاتية من رواق النص \ العنونى \ إلى المتن بنحو غير تقليدي . وإذا ما تركنا العنونة واتجهنا إلى ما يمهد الطريق إلى المتن فسنكون بمواجهة سيطرة أخرى وهي الإسقاطات اللغوية . و نرى فيما ذهبت إليه هذه الإسقاطات الكثيرة من التصورات التي يتبعها النص فأعطت للمجموعة رونقا وبريقا ميزته إيقاعيا فأصبح هناك اتصالا جنسيا أحال اللغة إلى متعة موسيقية عند المتلقي .
ان هذه المجموعة بل ان شعر الأديب عباس باني المالكي به حاجة إلى تأمل طويل ووقفات نقدية مستفيضة واشتغال نقدي متفحص في كل صغيرة وكبيرة , إذ ان شعره يحمل محمولات تتقلب على أكثر من وجه وتستبطن أمورا لا حصر لها , وهو بعد هذا كله يبحث في المنجيات مما علق بالذات الإنسانية من أدران فانية.
لهذا نجح الشاعر أيما نجاح في عملية التداخل الحقلي الحاصل بين النصوص والعنوان في بنية دقيقة ورصينة تتمظهر وتتجلى في أكثر من دلالة موحية وتنجح في إسباغ روح البحث والكشف والمشاركة في النص فيما يخص المتلقي , إذ استطاعت العنونة من سحب المتلقي بقوتها الذاتية من رواق النص \ العنونى \ إلى المتن بنحو غير تقليدي . وإذا ما تركنا العنونة واتجهنا إلى ما يمهد الطريق إلى المتن فسنكون بمواجهة سيطرة أخرى وهي الإسقاطات اللغوية . و نرى فيما ذهبت إليه هذه الإسقاطات الكثيرة من التصورات التي يتبعها النص فأعطت للمجموعة رونقا وبريقا ميزته إيقاعيا فأصبح هناك اتصالا جنسيا أحال اللغة إلى متعة موسيقية عند المتلقي .
ان هذه المجموعة بل ان شعر الأديب عباس باني المالكي به حاجة إلى تأمل طويل ووقفات نقدية مستفيضة واشتغال نقدي متفحص في كل صغيرة وكبيرة , إذ ان شعره يحمل محمولات تتقلب على أكثر من وجه وتستبطن أمورا لا حصر لها , وهو بعد هذا كله يبحث في المنجيات مما علق بالذات الإنسانية من أدران فانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق