الثلاثاء، 15 نوفمبر 2016

قراءة في قصيدة توازن للشاعر رياض محمد بقلم أ . هدى مصلح النواجحة

قراءة في قصيدة (توازن ) للشاعر رياض محمد أبو رحمة للأستاذة /هدى مصلح النواجحة
توازن
كي استعيدَ توازني
لا بدَّ من عود الخطى للنهرِ
أغسلُ ما علاني من سخامِ الدربِ
منْ عنفِ السقوطِ على شفا الكمائنِ
كي أستعيد توازني
لا بد من حُبٍ يغيّرُ طلعةَ الأشياءِ
مرآةٍ تريني الكونَ ليس بماجنِ
لا بدّ منْ طردِ الغريبِ يرومُ أرجائي صداهُ
فأغتدي كالساكنِ
لا بد من طللٍ يعيرُ حضارةَ الخَدَرِ العميقِ
عزيزَ طبعِ هوازنِ
كي أستعيدَ توازني
رياض محمد أبو رحمة
كان لزاماً عليّ أن أبحر في قصيدة متفردة في مضمونها , غنية في مقتنياتها البلاغية وإن بدت القصيدة سهلة ًإلا أنها تمثل السهل الممتنع من حيث القراءة الأدبية
التحليلية.
وسّد الشاعر قصيدته تحت عنوان( توازن) مصدر للفعل الخماسي توازنَ بمعنى الدقة والضبط والرجاحة والحصافة ,فٌالعنوان منفتحٌ على الحال والزمن لتعدد معانيه وهيآته , وهذا يضطرنا إلى التوغل بدقة في حنايا القصيدة والتمعن فيها , وهل وافق الشاعر بين العنوان والمضمون ؟
بعد الولوج في النص استشعرت أن الشاعر يتحدث بصوت المفرد, لكنه يخبئ في حناياه صوت الجماعة المتكلم والمخاطب والغائب , فالنص دعوة عامة مفتوحٌ للجميع دون استثناء حتى يشملهم في الحكم . والنص فكرة واحدة عمّقها وحفرها في الذاكرة .
ويبدأ بكي السببية والتي تعني الشرط المستقبلي فالشرط الأول لاستعادة التوازن (لابد من) التي تفيد البت وقطع الحكم في السبب , ويدلل على ضرورة العودة لما كنا عليه من خُلق وعادات كريمة ومبادئ سامية نلتزم بها , ويشير الى سوء ما وصلنا له( بسخم الطريق ), والوقوع في الكمائن وهذا يدلل على قمة الانحراف السلوكي الأخلاقي والمذلة والهوان ,وما يختبئ تحته. وأما النقاء وطهارته فهو يشير إلى العودة للنهر الذي يعني التطهر وإزالة ما علق بالذات من مخالفات ومغالطات .فيقول الشاعر كي أستعيد توازني لابد من عود الخطى للنهر أغسل ما علاني من سخام الدرب من عنف السقوط عل شفا الكمائن ).
والشرط الثاني لا بد لكلٍ منا بتغير الذات ونظرته إلى ما حوله , ويجب أن تكون نظرة ً إيجابية ً للتغيير والتقارب ,وهذا سينعكس على رؤية الشاعر, فالكون الذي يعيش فيه سيصبح مستحقاً للعمل والتضحية من أجله , وسيكون ليس تافهاً . ويظهر في قول الشاعر (كي أستعيد توازني , لابد من حب ٍ يغّر طلعة الأشياء , مرآة تريني الكون ليس بماجن ).
وكذلك يرى سبباً آخر للتوازن هو طرد وإبعاد كل ما يشوب حياة الشاعر وذاته وبلده سواء من أفراد ٍ أو حكومة احتلال , أي كل ما يشكل ضغطاً أو اختلافاً معه بجميع أشكاله كما جاء في النص (لا بد من طرد الغريب يروم أرجاءي صداه فأغتدي كالساكن).
والشرط الرابع لابد من ماض ٍعريق راسخ في النفوس نقدسه ونشتاق إليه بكل ما يمثله من منظومة قيمية لأجدادنا متوارثة والتي أشار إليها الشاعر واختصرها في لفظة(هوازن ) متمثلة في أخلاقيات وأصالة قبيلة هوازن التي تعود في نسبها للنبي إسماعيل ابن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام .كما أورد الشاعر ( لابد من طلل ٍيعير حضارة الخدر العميق عزيز طبع هوازن ).
لغة الشاعر قوية إذا تطغي الألفاظ والعبارات القوية على سطح القصيدة كلها والشاعر يعطينا مصباحين الأول لكشف حقيقة الوضع الذي يعيشه الشاعر وقومه والثاني يطرح أمامنا طرق الحل القضية بأسلوب صارم جاد, ويعتبره من وجهة نظره لا حل غيره .
لقد اتكأ على لفظة (لابد)والتي شكلت في عمق القصيدة ومعناها , قوائم أربع لتوازن القصيدة ونشبهها بأرجل المنضدة ,والتي انسجمت تماماً مع عنوان القصيدة .
نلاحظ توظيف الشاعر للمضارعة التي تحمل الاستمرارية والمستقبلية كما ورد في قوله(أستعيد ,أغسل , يغيّر , تريني , يروم , فأغتدي , يعير ).
تعتبر القصيدة لوحة ً من الصوّر البلاغية التي أفاضت القوة على القصيدة وأشارت إلى مبدأ الشاعر وجرأته في الكشف عما يكابده وشعبه من خلاله, فالتوازن الذي يرمز إلى السمو والتحرر والرفعة والعراقة أصبح شيء مادي (كي أستعيد
توازني ),والتحرر من كل ما يجده الشاعر مشين رمز إليه بالاستحمام بالنهر إشارة للنظافة وما علق به من قاذورات .( لابد من عود الخطى للنهر),ويوظف الرمزية في عبارة ( أغسل ما علاني من سخام الدرب من عنف السقوط على شفا الكمائن ) والتي تحمل الاستعارة المكنية في شفا الكمائن ,وحضارة الخدر كناية عما أخذناه من حضارات وتقاليد دخيلة زائفة أدن إلى انهيارنا .
الاستفاضة والإغداق في الرمزية في(تغيير طلعة الأشياء ) والتشبيه البليغ في (مرآة تريني الكون ليس بماجن ),وإشارة أخرى إلى من يريد تطهير البلاد منهم وهو الغريب الجاثم على الصدر . ويورد إشارات تاريخية أدبية تزيد من فضاء القصيدة الزماني والمكاني في لفظة (طلل, و طبع هوازن ) .
أعتمد أسلوب الشرط المكرر في السطرين الشعريين الأول والثاني في :
كي أستعيد توازني لابد من عود الخطى ....
كي أستعيد توازني لابد من حبٍ ...
ثم اعتمد الشاعر الإجابة في السطرين الآخرين وكأنه اطمأن لفهم المتلقي لما يريده الشاعر في قوله :
(لابد من حُبٍ..... ). (لا بد من طلل ٍ.... . )
أخذ حرف الجر (من) مساحة كبيرة على سطح القصيدة , وتدلل في إبراز ألفاظها ومعانيها , ومراد الشاعر .فقد ورد ست مرات وهو يفيد التوغل في المعنى والموضوع . ووردت (على )مرةً واحدة وهذا يدلل على ضعف الاستعلاء وبيان قهر ذات الشاعر . ووردت( كاف التشبيه) مرة ً واحدة (.واللام) مرة واحدة , (والباء) مرة واحدة .
وكذلك عجت القصيدة بالمضاف إليه(توازني ,عود الخطى ,عنف السقوط , شفا الكمائن ,طلعة الأشياء ,طرد الغريب ,أرجائي حضارة الخدر , طبع هوازن ) ,وهذا يدلل على وضع الشاعر النفسي المقهور , وأنه بحاجة لأشياء كثيرة لتعدّلَ من وضعه وحياته .
تتميز القصيدة بالحس الصوفي من خلال ما ورد من الألفاظ تحتمل أكثر من تفسير ويظهر فيها جلدُ الذات مثل( أستعيد توازني عود الخطى للنهر , سخام الدرب , السقوط , يروم أرجائي صداه ) .
مال الشاعر لتأكيد مطلبه بتوظيف تكرار العبارات في ( كي أستعيد توازني )فقد كررها ثلاث مرات , (لابد من )
فقد كررها أربع مرات .
ولقد أنهى الشاعر بنفس العبارة التي بدأ بها؛ للتوكيد وجذب انتباه المتلقي ,وكأنه يقول هذا ما أريد , لتكن أيها المستمع على بيّنة .
في عبارة ( للنهر)إشارة دينية ضمنها الحديث النبوي الشريف في فضل الوضوء والصلوات.
وكذلك إشارة إلى التعميد في الديانة المسيحية .
وفي الموسيقى الداخلية كان لانسجام تواتر الألفاظ في السياق موسيقى داخلية يستمزجها المتلقي, بالإضافة إلى التكرار في الألفاظ مثل توازني . وحرف الجر
( من) وياء المتكلم المضافة مثل (توازني أرجائي ) والضمير المتكلم في حالة المفعول به ,وتكرار الجمل بكاملها مثل (كي أستعيد توازني لا بد من ) ,وترد الموسيقى في قافية نهايات الأسطر ( الكمائن , بماجن ,كالساكن , هوازن ) وكذلك تكرار الحرف في السطر الواحد والأسطر تعج بذلك .
اعتمد الشاعر تفعيلة البحر الكامل في نسيجه الموسيقي وهي متفاعلن ,تفعيلة قوية تناسب المواقف الجدية الحماسية .
وفي الختام لا يسعني إلا أن أقول أن القصيدة قوية المعاني قوية الصدى والتأثير
تستحق القراءة لها والغوص فيها .
بقلم أستاذة / هدى مصلح النواجحة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق