الأربعاء، 21 يوليو 2021

في البديع و البيان // للأستاذ خالد خبازة // الجزء الاول (١)


 في البديع و البيان

للأستاذ خالد خبازة 

-------------

محمد خالد ع . خبـــازة

في

البديع و البيان 

اللاذقية / سوريا

تنسيق  و تبويب ..

 المهندسة  و الشاعرة .. 

فاتنة فارس 

من لبنان الشقيق

مقدمة

بالنظر  لما لعلم البيان ..وما للبديع من أثر  في الشعر العربي .. و بالنظر  لأهمية هذا الموضوع في النظم  ..  

فقد قمت بنشر عدد من البحوث الدورية في عدد من المنتديات الأدبية  .. عل يستفد منها شعراءنا الأكارم خاصة منهم المستجد  في النظم .

وقد قمت .

 بجمع جميع هذه المنشورات و المقالات المتعلقة بعلم البيان و البديع .. و ضمها في كتيب  أو كتاب  يمكن الرجوع اليه  ..و قد استندت في جميع هذه البحوث و المقالات .. الى العديد من المصادر و المراجع الخاصة بهذا الموضوع   و الى عدد من كتب التراث العربي  ..  منها:

1- كتاب البديع لابن المعتز 

2- كتاب البديع في البديع لاسامة بن منقذ ..  

3- كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري 

4- كاتب القوافي للأخفش الأوسط أبي الحسن سعيد بن مسعدة البلخي . 

5- كتاب نضرة الاغريض .. في نصرة القريض .. للمظفر العلوي 

6- العمدة في محاسن الشعر و فنونه .. لابن رشيق القيرواني .

7- اضافة الى الاستعانة احيانا بأطروحة " الانزاح الفني في شعر المتنبي " للدكتور الصديق  احمد مبارك الخطيب  .. من اللاذقية – سورية 

و غيرها  من الكتب التراثية ..  مع التصرف اضافة و تعديلا..  وفق للظروف  .. لتصل الى المتلقي .. ولتكون مرجعا له بصورة أكثر سهولة .. 

و لا بد هنا من توجيه الشكر الى كل من :

الدكتور الشاعر العراقي ثائر السامرائي ..

 رئيس منتدى " هاملت .. للابداع الأدبي للشعر و القصة " الذي وجه بتجميع و نشر هذا الكتاب 

حيث  تم تجميع ما كان قد تم نشره من بحوث حول الموضوع .. و تم تنسيقه من قبل عدد من الزملاء و الشعراء الذين ساعدوا في تقديم هذا المنجز .. و اشير هنا الى كل من الشعراء  الرائعين و الأساتذة :


1-  الشاعرة فاتنة فارس من لبنان 


2- الشاعرة و الأديبة  سعاد الأسطة من سورية 


3- الشاعرة و الاعلامية  ليلى زرزور من سورية 


4- الشاعر ناظم الفضلي من العراق 


5 – الشاعر عبدالباري الصوفي من اليمن 


لهم جميعا شكري و تقديري من القلب 


راجيا أن أكون قد وفقت .. و أديت المهمة بشكل مفيد وواف .

و الله ولي التوفيق .


مع كامل تحياتي  .. 

محمد خالد عبدالقادر خبازة 

اللاذقية / سورية

في  التعريف بعلم البيان     : 

 

البيان  كما عرفته كتب التراث العربي  


    " كل شيء كشف لك قناع  المعنى الخفي .. حتى يتأدى الى الفهم ، و يتقبله العقل .. فذلك هو البيان الذي ذكره الله عز و جل في كتابه ..  حيث          قال: 


  "  الرحمن ، علم القرآن ، خلق الانسان ، علمه البيان " 

 

   و سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم :  

فيم الجمال ؟  قال :

 في اللسان .. يريد البيان  .

   و قال  صلى الله عليه و سلم : 

 ان من البيان لسحرا 


   و قالت العرب : 

 " أنفذ من الرمية .. كلمة فصيحة  "


   و قال سهل بن هارون :  


   العقل رائد الروح ، و العلم رائد العقل ، و البيان ترجمان العلم . 

   

و قال ابن المعتز :

    

البيان ترجمان القلوب ، و سيقل العقول

 وقال الجاحظ :


البيان .. اسم جامع لكل ما كشف لك عن المعنى 


   و روي أن ليلى الأخيلية .. مدحت الحجاج .. فقال :

    يا فلان اذهب الى فلان و قل له بقطع لسانها . 

   فطلب حجاما ..

 فقالت : 

   ثكلتك  أمك  .. انما أمرك أنم تقطع لساني بالصلة ..

   فلولا معرفة ليلى الأخيلية و علمها بعلم البيان .. لربما أدى بها الى كارثة .


    يقول حسان بن ثابت:


    وان أحسن بيت أنت قائله  

............................... بيت يقال اذا أنشدته  صدقا


    فعلى الشاعر أن لا يأتي  المعاني بصورة مباشرة .. فلا بد من استعمال قواعد البيان  من  استعارة و كناية كما ذكرنا   :


    و تأكيدا لهذا المبدأ  . 

نذكر واقعة .. 

عندما القى الراعي النميري قصيدة يمدح بها الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان يقول فيها  : 


أخليفة الرحــمن انا معشر  

..................... حنفاء نسجد بكرة و أصيلا

عرب نرى لله في أموالنـا    

.....................حــــق الزكاة منزلا تنزيـلا


   فقال له عبدالملك : 


    ليس   هذا بشعر  .. بل هو شرح اسلام و قراءة آية  .. 


   كذلك الأمر .. فقد استهجان الشاعر مروان بن أبي الجنوب بالشاعر علي بن الجهم عندما قال للمتوكل في قصيدة له : 


الله أكبر و النبي محمد  

..................... و الحق أبلج و الخليفة جعفر 


فرد عليه مروان بن أبي الجنوب مستهزئا  : 


أراد بن جهم أن يقول قصيدة  

.........................بمدح أمير المؤمنيـــن فأذّنـــا 

فقلت له : لا تعجــلنْ باقــامة  

..........................فلست على طهرٍ فقال ولا أنا 


   ولا يمكن  لأحدنا تجاهل هذا النقد اللاذع النابع من الإحساس بأن الراعي النميري أو علي بن الجهم لم يكونا يقولان  شعرا و انما نظما 


(  من كتاب الانزياح في شعر المتنبي .. للدكتور أحمد مبارك الخطيب )


   و تأكيدا لهذا المبدأ أي تمييز العرب الأوائل بين الشعر و النظم  نقول :

  

    سأل الوليد بن عبدالملك جلساءه أن ينشدوه أوصف شعر قالته العرب .

 قال احدهم ، هو قول امرئ القيس :


و تعرف فيه من أبيه شمائلا

.........................و من خالد و من يزيد و من حجر

سماحة ذا و برّ ذا ووفـاء ذا 

.........................و نائـــل ذا .. اذا صحا و اذا سكر


    فقال أحمد بن أبي عيينة  :  


    " ظن العرب مثل هذين البيتين كأنهما حديث و ليس بشعر " . 


    و لعل عبارة ابن أبي عيينة  تشير الى وضوح الصورة في ذهنه ، أي الفارق بين اللغة الشعرية و اللغة النثرية العادية .


    اضافة الى ذلك فان " دعبل بن علي الخزاعي " أقام حدا بين اللغة الشعرية و الخطابة في التفاتة لا تخلو من الاعتداد باللغة الشعرية . 

يقول منتقدا  شعر  أبي تمام : 


   " ان أبا تمام لم يكن شاعرا .. بل  خطيبا ، و شعره بالكلام اشبه منه بالشعر  "  .  


    فبالرغم من أن مكانة أبي تمام الشعرية لا مجال للنقاش فيها .. الا أن دعبلا أراد أن ينال من شاعرية أبي تمام  مشبها شعره بالخطابة  . 

( الانزياح في شعر المتنبي .. للدكتور أحمد الخطيب )


    و كان الفرزدق قد اتهم الكميت حين عرض هذا الأخير عليه شعره بقوله : 

" أنت خطيب " .  

و قد رأى الشريف الرضي أن الفرزدق ، انما سلم له الخطابة ، ليخرجه عن أسلوب الشعر  . 

 

 لقد وصل  الخلاف  بين اللغويين و النحاة  الى الذروة ، حين انتقل السجال الى الضرورة الشعرية ، وهي التي تقبل من الشاعر خرق القواعد النحوية لدوافع فنية .. و ان ما يقوله الشعراء هو شأن ابداعي لا يجوز للنحاة تخطئته ، و انما عليهم أن يلتمسوا له وجوها من التأويل ، و هذا ما قال به الخليل بن أحمد الفراهيدي : 


" الشعراء أمراء الكلام ، يصرفون أنى شاءوا ، و جائز لهم ما لا يجوز لغيرهم ، من اطلاق المعنى و تقييده ، و من تصريف اللفظ و تعقيده ، و من مد مقصوره ، و قصر ممدوده ، و جمع و تثنية المفرد .. و افراد المثنى و الجمع .. و تكير المؤنث .. و تأنيث المذكر .. الخ . 

 و يحتج بـــهم ولا يحتج عليهم " . ..

( الانزياح في شعر المتنبي  .. للدكتور أحمد مبارك الخطيب  )


وأما المحسنات البديعية .. فهي جانب من جوانب اللغة الشعرية  التي كثيرا ما يأتي عليها الشاعر أحيانا ، كي يمنح  المعنى جمالا ، و القريض قوة .. 

و لكن على  الشاعر أن يعرف كيف يستعملها فيأتي بها  بصورة  لاتكلف فيها  ، فان أكثر منها الشاعر ،  مجها السمع وأصبحت ثقيلة عليه ، فجاء الشعر متكلفا ، بعيدا عن العاطفة .

 و يقال ان مسلم بن الوليد الملقب " صريع الغواني " هو أول من أكثر من البديع في شعره ، ثم تبعه الشعراء في ذلك . 

و يبدو أنها سميت " محسنات " لما تضيف على القصيدة أو الأبيات من جمال شعري ، و قوة في البناء . 

و ليس معنى ذلك أن قدماء الشعراء لم يكونوا يستعملونها  .. بل على العكس من ذلك . انما كانت تأتي في قصائدهم على السليقة و البديهة ،  دون قصد و دون أي تكلف  .. و دون أن يكون لها تسمية عندهم  ..   و عندما جاء المحدثون فقد أكثروا من استعمالها و تقصدوا . حتى جاءت في أحيان كثيرة مقيتة و متكلفة .  

وانني أرى 

 أن على الشاعر خاصة ، أن يكون ملما بهذه المحسنات ، و على معرفة بها ، ليمنح الأبيات جمالا و قوة ، و عليه أن يتجنب التعسف في استعمالها .

 و لا يكفي الشاعر أن يكون على علم بها فقط ، بل لا بد أن يكون ملما بها بحيث يستطيع أن يضعها في مكانها الصحيح .. و في الوقت المناسب .. فلا تأتي متكلفة قبيحة ..  و أن يكون على دراية في امكان  ابدال كلمة بأخرى تحمل نفس المعنى .. فتأتي بصورة أكثر جمالا و قوة   ، و تشكل في الوقت نفسه جناسا جميلا  ، أو أن يأتي بكلمة تشكل طباقا مع كلمة أخرى في البيت ، أي معنى مخالفا ، فتأتي الأبيات  بصورة أجمل ، فكأن الشاعر يقوم بترصيع قطعة من الحلي ، حتى تخرج أكثر جمالا ، و أبهى منظرا ، و على الشاعر حذف العبارات التي تشكل حشوا ، لا فائدة من وجودها و استبدالها بعبارات و ألفاظ تزيد في معاني البيت معنى جديدا و استبدالها بجمل  تحمل معنى جيدا  ..


   و اذا كان أجدادنا  العرب قد فرقوا بين الشعر و النظم .. لذا كان على الشاعر  أن يكون مطلعا على أسرار الصناعة الشعرية .. و قواعد البيان و البديع  ملما بها ..  ليكون نظمه شعرا حقيقيا و ليس نظما قريبا من النثر  ..  


     وبالتالي فقد ميز أجدادنا   بين الشعر الحقيق و بين النظم ..  و نعود فنذكر أنه لا بد للشاعر  من الالمام بقواعد علم البيان و البديع   .. من استعارة و تشبيه و كناية  و غيرها  

و كانت العرب تقول  : 


"  محاسن اشعر ثلاثة  ..  التطبيق  ( الطباق أو لمطابقة )   و التجنيس  و المقابلة .. و محاسن المعاني ثلاثة  ..  الاستعارة و التشبيه  و المثل  "


    فعلى الشاعر القصد اليها و الاعتماد عليها  


و في تعريف القدماء  للشعر  

 يقول ابن الأثير : 


" أسرار الفصاحة ، لا تؤخذ من علماء العربية ، و انما تؤخذ منهم مسألة نحوية تصريفية ، أو نقل كلمة لغوية ، و ما جرى هذا المجرى ..  و أما أسرار الفصاحة فلها قوم مخصوصون  بها " .


 فهو اضافة الى الغمز من قناة النحويين و اللغويين، أراد أن يثبت أقدام النقد للمتخصص في تحليل الجانب الدلالي للغة ،  مشيرا  الى أن ميدان عمل النقاد هو البحث عن أسلوب اللغة الشعرية بفصاحتها و بلاغتها ، و ما تمتاز به عن غيرها من أساليب الكلام الأخرى ، و هكذا كانت الفصاحة أول جانب من جوانب اللغة الشعرية . ..


و قال أبو العباس  الناشئ في كتابه " في الشعر "  :  

الشعر قيد الكلام ، و عقل الآداب ، و سور البلاغة ، و معدن البراعة . . و الشعر ما كان سهل المطالع ، فصل المقاطع ، فحل المديح جزل الافتخار ، شجي النسيب ، فكه الغزل ، سائر المثل ، سليم الزلل ، عديم الخلل ، قريب البيان ، بعيد المعاني ، قد هريق فيه ماء الفصاحة ، و أضاء له نور الزجاجة .. قد أبدت صدورُه متونه ، و زهت في وجوهه عيونه ، و انقادت كواهله لهواديه ، و طابقت ألفاظه معانيه ؛ فلو اكتنف الايجاز موارده ، و شحذت مدارس الأدب فياصله ، جاء سليما من المعايب ، مهذبا من الأدناس ، مهديا الى الأسماع بهجته ، و الى العقول حكمته . 

 و  أضاف قائلا معرفا الشعر ، في أبيات من الكامل :


الشعر ما قومت زيــــــغ صدوره 

............................... و شددت بالتهذيب أسر متونه

و رأيت بالاطناب شعب صدوعه 

............................... و فتحتَ بالايجاز غور عيونه  

و جمعت بين قريبـــه و بعيـــــده 

................................ ووصلت بين مجمّه و معينــه

و عقدت منـــه لكل أمــر يقتضى

................................ شبها به .. فقرنتـــه بقرينــــه

فاذا بكيـــت به الديــار و أهلـــها 

...............................أجريت للمحزون ماء شؤونه

ووكلتـــه بهمــومه و غمـــــومه 

...............................دهرا فلم يسرِ الكرى بجفونـه

و اذا مدحـــت به جــوادا مـاجدا 

...............................و قضيته بالشكر حق ديــونه 

أصفيتـــه بنفيسه  و رصينــــــه      

..............................و منحتــه بخطيره و ثمينـــــه

فيكـون جزلا في اتفاق صنوفه     

..............................ويكون سهلا في اتساق فنونـه

فاذا أردت كنايـــة عن ريبـــة     

.............................باينـت بين ظهوره ..و بطونـه

فجعلت سامعه يشوب شكوكه    

.............................ببيـــانه و ظنـــونه بيقينــــــــه

و اذا عتبت على أخ  في زلة   

........................... أدمجــت شدته له ..  في لينــــه

فتركتـــه مستـــأنسا لدماثــــة    

.............................مستيئسا لوعـــوثه و حزونـــه 

و اذا نبذت الى التي علقتـــها   

............................ان صارمتك بفاتنــات شؤونــه

تيمتــها بلطيفـــة  و رقيقــــة   

............................و شغفتها..  بخفيـــه  و كمينــه 

و اذا اعتذرت الى أخ من زلة   

............................ واشكت بين محيــله  و مبينــه

فيحور ذنبـــك عند من يعتده  

.......................... عتبا عليك ..  مطالبـــا بيمينــه

و القول يحسن منه في منثوره   

...........................ما ليس يحسن منه في موزونه


اذن  أعيد و أذكر  أن على الشاعر عدم التعسف في استعمال البديع .. و عليه أن يكون صادقا العاطفة لا تكلف في استعمال ألفاظه و أن تكون ألفاظه متناسبة و المعنى المراد    

يقول   حسان بن ثابت :


وان أحسن بيت أنت قائله 

......................... بيت يقال اذا أنشدته صدقا 

و قال احمد شوقي :


و الشعر ان لم يكن ذكرى و عاطفة

........................ أو حكمة ، فهو تقطيع و أوزان


و قال حسان بن ثابت أيضا :


و انما الشعر عقل المرء يعرضه

.................... ... على البرية ان كيسا و ان حمقا


و حيث أن موضوع البيان  بتعلق بالفصاجة و البلاغة بصورة كاملة  


فسنبحث  في هذا الكتاب  في الفصاحة و البلاغة

و هل هما بمعنى واحد ؟ 

و سنبحث أولا  في معنى البلاغة و الفصاحة  

*****

---------

(القسم الثاني)



 في الفصاحة .. و البلاغة 


قبل  الحديث  عن الفصاحة والبلاغة  نقول  .. 

انه  كثيرا ما يتساءل المرء : 

ماهي الفصاحة .. وما هي البلاغة ؟ و هل الفصاحة هي نفسها البلاغة ؟ 

يعتقد الكثيرون أن الفصاحة هي نفسها البلاغة . و لكن في الحقيقة لكل منهما معنى يختلف عن الآخر .


وقديما قيل : 

ليس كل فصيح ..  بليغ 


و أكثر البلغاء .. لا يكادون يميزون بين الفصاحة و البلاغة .. بل يستعملونهما استعمال الشيئين المترادفين ، على معنى واحد ، في تسوية الحكم بينهما  .

الا أن ..

اجدادنا العرب..  ميزوا و فرقوا بين الفصاحة و البلاغة


قال ابن المعتز :

"   البيان ترجمان القلوب و صيقل العقول "


و قال الجاحظ :

" البيان اسم جامع لكل ما كشف لك عن المعنى " . 


و  البلاغة ،


هي  من حيث اللغة أن يقال :


بلغت المكان ، أي أشرفت عليه ، و ان لم تدخله .


و البلاغة ..

 وضوح الدلالة ، و انتهاز الفرصة ، و حسن الاشارة ، كما يقول البعض  . 


و يقول آخرون :


 البلاغة تصحيح الأقسام ، و اختيار الكلام . 

و البليغ يجب أن يكون قليل اللفظ ، كثير المعنى . 


و قيل ان معاوية سأل عمرو بن العاص :

 من أبلغ الناس؟ ..

 قال  : 


أقلهم لفظا، و أسهلهم معنى ، و أحسنهم بديهة . 


و قال أبو عبدالله وزير المهدي :


البلاغة ما فهمته العامة ، و رضيت به الخاصة 

.

و سئل بعضهم عن البلاغة فقال : 


كلام و جيز معناه ، الى قلبك أقرب من لفظه الى سمعك .


قال رجل للعتابي : 

ما البلاغة . قال :

كل من بلغك حاجته ، و أفهمك معناه ، بلا اعادة و لاحبسة ، و لا استعانة ، فهو بليغ . 

قالوا :

قد فهمنا الاعادة و الحبسة ، فما الاستعانة .؟ . 

قال :

أن يقول عند مقاطع كلامه :

 اسمع مني ، و افهم عني ..  أو يمسح عثنونه..  أو يفتل بين اصابعه ، أو يكثر التفاته من غير موجب ، أو يتساعل من غير سعلة ، أو ينبهر في كلامه .

و قال الشاعر :


مليء ببهر و التفات وسعلة ... ومسحة عثنون و فتل أصابع


و قال جعفربن محمد  الصادق رضي الله عنه  :


انما سمي البليغ بليغا .. لأنه يبلغ حاجته بأهون سعيه .


و قال المفضل الضبي : 

سألت أعرابيا عن البلاغة .. فقال : 


الايجاز في غير عجز ، و الاطناب في غير خطل .


و قيل للعتابي : ما البلاغة . فقال :


من أفهمك حاجته من غير اعاقة  ولا حبسة و لا استعانة .


و سئل بعض الحكماء عن البلاغة .. فقال :


من أخذ معان كثيرة فأداها بألفاظ قليلة .. و أخذ معان قليلة ، فولد منها ألفاظا كثيرة .. فهو بليغ .


ومن أعلى درجات البلاغة في الكلام المنثور 

 قوله تعالى :


"  و قيل يا أرض ابلعي ماءك ، و يا سماء أقلعي ، و غيض الماء و قضي الأمر و استوت على الجودي ..  " 


و قوله أيضا :


" فاصدع بما تؤمر " .


ومن البلاغة في القول المنظوم قول امرؤ القيس :


قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل ..


فانه وقف و بكى و استبكى و تغزل بذكرى الحبيب و المنزل .. 

و ذلك بنصف بيت فقط ..


 أما الفصاحة : 


يقول الامام فخر الدين الرازي :


اعلم ان الفصاحة ، خلوص الكلام من التعقيد ،

 و أصلها من قولهم : 

أفصح اللبن ..  اذا أخذت عنه الرغوة . 

و يقال أفصح الصبح .. اذا انكشف و بدا . 

و كل واضح مفصح . 


و يزعم بعضهم ، أن 


البلاغة في المعاني ..  و الفصاحة في الألفاظ  

 

و يستدل بقولهم : 


معنى بليغ .. و قول فصيح .


و الكلام  الفصيح 

 هو اللفظ الحسن المألوف في الاستعمال ، بشرط أن يكون معناه المفهوم منه صحيحا حسنا .

ومن المستحسن في الألفاظ ..  تباعد مخارج الحروف ..  فان كانت بعيدة المخارج ، جاءت الحروف متمكنة في مواضعها ، غير قلقة و لا مكدودة .

ومن الأمثلة على تقارب المخارج و قلق الحروف كقول بعضهم :


و قبر حرب بمكان قفر... و ليس قرب قبر حرب قبر 


فلا يستطيع قارئ هذا البيت أن يقرأه عشر مرات متتالية ، الا أن يقع في الغلط بالقراءة .. ذلك أن القرب بين المخارج يجعل النطق به صعبا .


و البيان وفق " معجم لسان العرب " لابن منظور: 


ما بُيـِن به الشيء من الدلالة .

 و بان الشيء بيانا : اتضح فهو بيــِّنٌ ، و الجمع أُبَيْــناء ، مثل هين : أُهـَـيْنـاء و كذلك أبان اشيء فهو مبين .

و البلاغة : الفصاحة .. و البـَلْغ و البِـلْغ : البليغ من الرجال . و رجل بليغ : أي حسن الكلام فصيحه ، يبلغ بلسانه كنه ما في قلبه ، و الجمع بلغاء 


قال خالد بن صفوان في البلاغة : 

هو اصابة المعنى ، و القصد الى الحجة

و قيل :

قلة الكلام و ايجاز الصواب 

...

و الفصاحة هي غير البلاغة .. والبلاغة أن تأتي المعنى بأقل الألفاظ – 


و قال معاوية لصُحار بن العباس العبدي : 

ما هذه الفصاحة فيكم عبدالقيس ؟ . 

قال :

شيء يختلج في صدورنا فتقذفه  ألسنتنا ، كما يقذف البحر الزبد . 

قال : 

فما البلاغة عندكم ؟ . 

قال : 

أن نقول فلا نخطئ ، و نجيب فلا نبطئ . 

ثم قال :

أقلني يا أمير المؤمنين . 

قال : قد أقلتك .

 قال :لا تبطئ و لا تخطئ .

قال أبوحاتم : 

استطال الكلام الأول ، فاستقال ، و تكلم فاوجز .


و من الأمثلة على البلاغة :


و قفت امرأة على قيس بن سعد بن عبادة ، فقالت :

 أشكو اليك قلة الجرذان . 

قال :

ما أحسن هذه الكناية ! .. املؤوا بيتها خبزا و لحما و سمنا و تمرا .


وقيل لشبيب بن شيبة عند باب الرشيد :

كيف رايت الناس ؟ . قال :

رأيت الداخل راجيا ، و الخارج راضيا ,


وأمر هارون الرشيد جعفر البرمكي ، أن يعزل أخاه الفضل من الخاتم ، و يأخذه اليه عزلا لطيفا . فكتب اليه :

قد رأى أمير المؤمنين أن ينقل خاتم خلافته من يمينك الى شمالك .

 فكتب اليه الفضل :

ما انتقلت عني نعمة صارت اليك ، و لا خصتك دوني 


و نظر أعرابي الى رجل سمين . فقال :


أرى عليك قطيفة من نسج أسنانك .


سئل بعضهم عن الشعر فقال :

 ما لم يحجبه شيء عن القلب .

و قال الأصمعي  في الشعر و يقصد البلاغة  :

 الشعر ما قل لفظه ، وسهل و دق معناه ولطف ، و الذي اذا سمعته ، ظننت أنك تناله ، فاذا حاولته ، وجدته بعيدا ، و ما عدا ذلك فهو كلام منظوم .

و قال بعض البلغاء : الشعر عبارة عن مثل سائر ، و تشبيه نادر ، واستعارة بلفظ فاخر .


أما .. و قد تكلمنا عن الفصاحة و البلاغة .. فسننتقل الى الكلام عن الاستعارة 


*****


أولا :  الاستعارة :

 بعد أن تحدثنا عن  علم البيان  و ماهي الفصاحة و البلاغة  ..

فقد جاء دور الحديث عن مقومات  علم البيان و البديع  .  

    كثيرا ما استعمل العرب  المجاز  .. و كانوا يعدونه من مفاخر  كلامهم ..  فانه دليل الفصاحة ، و رأس البلاغة .. و بها بانت لغتها عن سائر الأمم ؟

   و المجاز 

في كثير من الأحيان  أبلغ من الحقيقة ..و أحسن موقعا في القلوب و الأسماع .

و الاستعارة 

كما  يعتبرها  قدماء العرب  .. 

أفضل المجاز ، و أول أبواب البديع ، و ليس في حلي الشعر أعجب منها . وهي من محاسن الكلام ، اذا وقعت موقعها ، و نزلت  موضعها . . 

و تعتبر الاستعارة .. أهم الصور البلاغية ، بل هي الشكل البلاغي ..و هي تمثل الخاصية الأساسية  للغة الشعرية .. حيث وضعها عبدالقاهر الجرجاني في المرتبة الأولى للصور المجازية  .. و فضلها على التشبيه .    

   و ما تزال الاستعارة قديمة تستعمل  في المنثور  و المنظوم  .

   و الاستعارة  ..  كما يقول عبدالقاهر الجرجاني ، في كتابه " أسرار البلاغة "

:

    " ضرب من التشبيه ، و نمط من التمثيل ،  و التشبيه قياس ، و القياس يجري فيما تعيه القلوب ، و تدركه العقول ، وتستفتى فيه الأفهام الأذهان ، لا الأسماع و الآذان . "


و قد عرفها  أيضا بقوله :


   " و اعلم أن الاستعارة في الجملة ، أن يكون للفظ أصل في الوضع اللغوي  معروف ، تدل الشواهد على أنه اختص به حين وضع ، ثم يستعمله الشاعر أو غير الشاعر  في غير ذلك الأصل ، و ينقله اليه نقلا غير لازم ، فيكون هناك كالعارية  ." 


فأنت تقول  مثلا :  


   رأيت اسدا  .. 

و أنت تعني  رجلا  شجاعا   .. 

أو رأيت بحرا  ..  أي رجلا جوادا كريما  

  أو تقول  رأيت بدرا و شمسا  .. و أنت تريد رجلا مضيء الوجه متهللا  

   فأنت  استعرت  اسم الأسد  .. أو اسم  البحر ..  أو البدر و الشمس  للرجل  .. 

     و المقصود المبالغة في وصف الرجل  بالشجاعة أو الكرم ..  أو .. وضاءة الوجه  .. الخ ..  


    و قد عرف أجدادنا الاستعارة بأنها كما يقال : 


 " هي استعارة الشيء المحسوس ، للشيء المعقول ( أي  المعنوي )  " 


 ، كقوله تعالى :


"   لا تظلمون فتيلا " 

 " و لا يظلمون نقيرا " 

" و ما يملكون من قطمير " 


   و  فضل الاستعارة على الحقيقة  ، أنها تفعل  في نفس السامع ، ما لا تفعله الحقيقة  و هي  أوكَدُ  في النفس من الحقيقة  .  

كقوله تعالى أيضا :


" و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة " 


    و هنا نرى هذه الاستعارة الرائعة  عندما استعار القرآن الكريم  لفظة  " الجناح " ، و أضافها الى لفظة  " الذل  " .. الذي لا يمكن أن يكون له جناح  .. فالمعنى  اذن  .. هو  معنى مجازي 

و كقوله أيضا :


"  و اشتعل الرأس شيبا  " 


    فقد استعار القرآن الكريم  فعل الاشتعال الى الرأس .. وهو معنى مجازي أيضا .


 و الاستعارة ، كقول الشاعر :


و عري أفراس الصبا و رواحله 


    و كما  قال الآعرابي :


"  كانوا اذا اصطفوا ، سفرت بينهم السهام ، و اذا تصافحوا بالسيوف ، قفز الحِمام . "


   فالاستعارة هنا في " عري أفراس الصبا ، و سفرت بينهم السهام ، و قفز الحمام .. الخ 


    ومن أحسن الاستعارات في الشعر قول ذو الرمة :


أوردته و صدور الليل مسنفة ... و الليل بالكوكب الدري منحور


   و قوله أيضا , و هو من أجمل الاستعارات : 


أقامت به حتى ذوى العود في الثرى...و ضم الثريا في ملائتــــه الفجر


    نلاحظ  هنا كيف استعار الشاعر فعل ذوى ، و أضافه للعود ، 

    كما استعار الشاعر  الملاءة ، وهي لباس  للآنسان أصلا ، و أضافها للفجر ، فكأنه اعتبر الفجر كالانسان يلبس عباءة ، خبأ خلالها نجوم الثريا ،

 وهو معنى رائع  . 


و قد  أحسن أبو تمام بقوله :


لا تسقني ماء الملام فانني ... صب قد استعذبت ماء بكائي 


    ثم لننظر الى أبيات كثير عزة ، التي أثنى عليها  كثير ، من اللغويين و الشعراء ، 

 فكانها الماء جريانا  ، و الهواء لطفا ، و الرياض حسنا ، و كأنها النسيم ، أو كأنها الرحيق ، أو الديباج في مرامي الأبصار ، 

و لنرى مدى جمالها و روعتها ، و الى ما فيها من استعارات جميلة رائعة  :


و لما قضينا من منى كل حاجة...و مسّح بالأركان من هو ماسح

وشدت على متن المهارى رحالنا ...ولم ينظرالغادي الذي هو رائح

أخــذنا بأطــراف الأحاديث بيننـا...و سالت بأعناق المطيِّ الأباطح 


    لننظر الى هذه العبارة

  " و سالت بأعناق المطي الأباطح  " 

هذه الاستعارة الرائعة ، اذ لا يمكن لقارئ هذه الأبيات ، الا أن يتصور أعناق الجمال ، فيتخيل السهول و التلال و  كيف يراها كأنها تسيل و تسير أمام عينيه متلازمة مع أعناق الابل  .   : 


أخذنا بأطراف الأحاديث

  سالت بأعناق المطي الأباطح 


لقد وقعت الاستعارة موقعها ، و أصابت غرضها ، حتى وصل المعنى الى القلب ، وصوله الى السمع ، و استقر في الفهم ، مع وقوع العبارة في الأذن .


جاء في أحد كتب التراث  :


     و لسلامة الكلام من الحشو غير المفيد . يقول ابن جني : 


    ان الاستعارة لا تكون الا للمبالغة ..و الا فهي حقيقة .

 قاله في شرح بيت أبي الطيب : 

 

    فتى يملأ الأفعال رأيا و حكمة ... و بادرة أحيان يرضى و يغضب 


    و ان كلام ابن جني حسن في موضعه .. لأن الشيء اذا أعطي وصف نفسه .. لم يسم استعارة .

 فاذا أعطي وصف غيره ..  سمي استعارة .

 الا أنه  لا يجب للشاعر أن يبعد الاستعارة جدا حتى ينافر .. و لا يقربها كثيرا حتى يحقق ، و لكن خير الأمور أوساطها "


    و قال أبو الحسن الرماني : 


    الا ستعارة .. استعمال العبارة على غير ما وضعت له  في أصل اللغة . 


   ومن جيد الاستعارة و مما اختاره ابن الأعرابي  ،  قول أرطأة  بن  سهية :


       فقلت لها يا أم بيضـــاء انني ...هريق  شبابي و استشن أديمي 


   قال .. هريق شبابي لما في الشباب من الرونق و الطراوة التي هي كالماء . ثم قال استشن أديمي .. لأن الشن .. هو القربة اليابسة .. فكأن أديمه صار شنا  لما هريق ماء شبابه ؛

 فصحت له الاستعارة و لم تبعد . 

و هذا البيت ينسب أيضا الى أبي حية النميري .

 و مثل ذلك في الجودة  ، ما فضله بعض العرب ، قول طفيل الغنوي : 


فوضعت رحلي فوق ناجية ... يقتات شحم سنامها الرحل


   فجعل شحم سنامها قوتا للرحل ، و هذه استعارة كأنها الحقيقة لتمكنها و لقربها . 

    و كان ابن المعتز يفضل ذا الرمة كثيرا ، و يقدمه بحسن الاستعارة و التشبيه  لاسيما قوله :


فلما رأين الليل و الشمس حية ... حياة الذي يقضي حشاشة نازع 


فقوله و الشمس حية من بديع الكلام و الاستعارة ، و باقي البيت هو من عجيب التشبيه .

    كذلك من بديع الكلام و حسن  الاستعارة  ما قاله ابن ميادة :


اذا ما هبطنا القاع قد مات بقله... بكينا به حتى يعيش هشيما 


    و الاستعارة كثيرة و يذخر بها القرآن الكريم كما في قوله تعالى :


لما طغى الماء


   و قوله :


فلما سكت عن موسى الغضب

 

و قوله أيضا : 


و سمعوا لها شهيقا و هي تفور ، تكاد تميز من الغيظ .


و قوله :


يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء أقلعي .. 


   كذلك فان الاستعارة تكثر في أقوال الرسول صلى الله عليه و سلم . 

كما في قوله : 


تمسحوا بالأرض فانها بكم برة .


أي منها خلقهم و فيها معادهم و هي بعد الموت أكفاتهم . 


و في شعر امرئ القيس قوله :


      و ليل كموج البحر أرخى سـدوله ...علي بأنـــواع الهموم ليبــــتلي

      فقلت له .. لما تمــــــــطى بصلبه ...وأردف أعجازا ونــــاء بكلكل


    فاستعار لليل سدولا يرخيها .. و هي الستور ..  و صلبا يتمطى به ، و أعجازا يردفها و كلكلا ينوء به ... 

    و من  روائع البديع قول أبي نواس :


فاذا بدا اقتادت محاسنه ... قسرا اليه أعنة الحدق


و من الاستعارات الجميلة 

قولي من قصيدة بعنوان " أوراق الليل " :


و لما تعرى الليل و انشق ثوبه ... و اسقط أوراقَ الدجى .. طلعة البدر

ولاح رداء الفجريخضل بالندى ... رشفنا بكف الشمس من خمرة الفجر


 ولا بد من القول أن موضوع الاستعارة بحث طويل ، و قد اختصرت ما فيه الكفاية , لنتعرف على موضوعها ، و هي بحث هام للشاعر كما الناثرأيضا  


****************

( القسم الثالث )



ثانيا  : الكنـــــاية  :



   هي كما أراها ..  

 أن يأتي الشاعر بعبارات أو بألفاظ  تحمل معان معينة .. و لكن يستشف منها معنى آخر قصده الشاعر ..  


   وكذلك .

 أن يذكر المتكلم شيئا ، و هو يريد شيئا آخر  .. 

 كقولك : 


   فلان نقي الثوب .. ي لا عيب فيه ،


 و طاهر الجيب ..أي ليس بغادر ،


 و دنس الثوب .. أي فاجر ،


 و مغلول اليدين ، أي بخيل ، 


    و منها قول الرسول ( ص ) :


" اياكم و خضراء الدمن "   

و هي المرأة الحسناء في منابت السوء .. الخ .. و الأمثلة كثيرة .


   و الكناية أبلغ من التصريح فيما قصد بها.. 

و كان تقديمها أعون للمعنى الذي جلبت لأجله .  

جاء في كتاب البيان و التبيين للجاحظ :


   " و قال بعض أهل  الهند : جماع البلاغة ، البصر بالحجة .. و المعرفة بمواضع الفرصة 

    ثم قال  :

 و من البصر بالحجة ، و المعرفة بمواضع الفرصة ، أن تدع الافصاح بها ، الى الكناية عنها ، اذا كان الافصاح أوغر طريقة . و ربما كان الاضراب عنها صفحا ، أبلغ في الدرك ، و أحق بالظفر . " 


و قد ميز أسامة بن منقذ في كتابه " البديع في البديع في نقد الشعر " بين الكناية و الاشارة ، بالرغم من تقاربهما كثيرا ، و أنهما من بنية واحدة . يقول :


    اعلم أن الفرق بين الكناية و الاشارة ، أن الاشارة  الى كل شيء حسن ، و الكناية ، الى كل شيء سيء . 

   

    كقوله تعالى :

 "  فيهن قاصرات الطرف " 

اشارة الى عفافهن .  


    و كقوله تعالى :

 " فرش مرفوعة " 

اشارة الى  نساء كرام .


 وكقوله :

 " أرضا لم تطؤها " 

اشارة الى سبي النساء .


    و قوله تعالى : 

" كانا يأكلان الطعام "

 كناية عن قضاء الحاجة .. 


    و أنا  لست أرى هذا الفارق الكبير  بين الاشارة و الكناية . 

    و من الأمثلة عن الكناية  قول العرب : 


    طويل نجاد السيف  .

 كناية  الى ارتفاعه عن الدنايا .


     و كقولهم :

 فلان عظيم الرماد ، او ناره لا تطفأ  ، 

هي كناية  الى كثرة القرى و الكرم .

 

     و قولنا ..

 يكثر الرماد في ساحة عمرو  ... 

  كناية  عن  أن عمرا مضياف  


    و أروي هنا قصة طريفة حول الكناية : 


    و قفت امرأة على قيس بن سعد بن عبادة ، فقالت :

    أشكو اليك قلة الجرذان . قال :

    ما أحسن هذه الكناية ! .. املؤوا بيتها خبزا و لحما و سمنا و تمرا .

   فهي لم ترد أن يكون بيتها مليئا بالجرذان  ..

 و انما هي أشارت كناية  الى خلو بيتها من المؤونة  . 


    و رأى أحدهم رجلا سمينا  .. فقال له :

    أرى عليك قطيفة من نسج أسنانك 


    و لذا ، أرى 

أنه لا حاجة بنا الى التمييز بين الاشارة و بين الكناية ، كما يراها أسامة بن منقذ في كتابه  البديع في البديع.. فالاشارة ما هي الا كناية ، سواء أكانت اشارة الى شيء حسن ، أم كانت كناية الى شيء سيء . فجميعها تدخل فيما يسمى في علم البديع  " الكناية " . 


  و ان أسبق الناس الى الكناية ، و الى هذا المعنى ، امرؤ القيس ، في قوله : 


   و يضحي فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل


    يعني بقوله نؤوم الضحى ، أنها مخدومة من بنات الملوك . أي أنه تبغى نائمة فهناك من يقوم بمهام المنزل  .


    و يقول عمر بن أبي ربيعة : 


     بعيدة مهوى القرط اما لنوفل... أبوها واما عبد شمس وهاشم


    و يقصد بقوله بعيدة مهوى القرط .. مشيرا الى طول عنقها 

و هو كناية جميلة . 


    و يقول عنترة :


    بطل كأن ثيابه في سرحة ...  يحذى نعال السبت ليس بتوأم 


   السرحة : مفرد سَرْح ، و هو الشجر الكبير و الطويل ، يستظل تحته . 

   و قد أشار عنترة الى أن ثيابه في سرحة .. كناية عن طول قامته ، 

و قصد بقوله : يحذى نعال السبت ، الى أنه ملك ، 

و بقوله : ليس بتوأم ، الى أنه قوي شديد . 


و قد أعجبني في موضوع الكناية ما كتبه عمرو بن مسعدة الى المأمون :


    "   أما بعد .. فقد استشفع بي فلان ، في الحاقه بنظرائه ، فأعلمته أن أمير المؤمنين ، لم يجعلني في مراتب الشافعين ، و لو فعلت ذلك ، لتعديت طاعته ..  و السلام .. "  


    فوقع المأمون في كتابه :


   " قد عرفنا تصريحك له .. و تعريضك لنفسك .. فأجبناك اليهما ، ووقفناك عليهما .." 


     و من الكنايات الجميلة أيضا قول المتنبي في رثاء أخت سيف الدولة :


 و ان تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فان في الخمر معنى ليس في العنب 


    و انني لم أر في شرح موضوع الكناية هنا ، أحسن مما  جاء في أطروحة الصديق   الدكتور أحمد مبارك الخطيب " الانزياح الفني  في شعر المتنبي  "  التي نال بها شهادة الدكتوراه في الادب ، حيث يقول في تحليل البيت المذكور ما يلي :


"  يقول أبو محسّد "  المتنبي " :


وان تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فان في الخمر معنى ليس في العنب


   فالمرثية .. أخت سيف الدولة تنتسب الى قبيلة "  تغلب " العزيزة المنيعة " الغلباء " فهناك القبيلة ، و بنت القبيلة .. و اذا كانت القبيلة ذات شأن فان لابنة تغلب ( اخت سيف الدولة ) المزايا و الصفات ما يفوق قبيلتها .. و هو ما يفهم من الشطر الثاني من البيت .. فالعنب بالرغم من جودته ، فانه يتحول الى مادة أكثر جودة ، و هي الخمر .. و ان الشاعر يريد أن يقول : ان المرثية تحمل من الصفات و المزايا ما يفوق أصلها ، بالرغم من أنه أصل كريم ، فلجأ المتنبي الى التعبير الكنائي و انزاح عن التعبير الأصلي ، ليؤدي هذه الصورة الشعرية المبتكرة ، وهي دليل على أن طرفي الشطر الأول ، القبيلة و ابنة القبيلة ، ينهضان معا في موازاة الشطر الثاني ، العنب و الخمرة .. اذا بذلك التقابل بين المعنيين ، نستطيع أن نجد للفكرة معادلها اللغوي ، و بها تتحول عاطفة المتنبي الثرية نحو الموضوع الى مادة لغوية أكثر ثراء ..  "


و من  الكناية أيضا  قولي  في قصيدة :

 

و ليالٍ سُمّارُها الراحُ و الحبُّ... و ظبيٌ وصبحُنا حيثُ صاحا 


و سألنا الشموسَ تغربُ فجرًا ...و ذممنا على الشروق الصباحا


و  قولي أيضا :  


و من ينفقِ الأيـــامَ للدهرِ عاتبًا ...أضاعَ و أمضى عمرَه و هو يعتب


و قولي :  


ولا خيرَ في خلٍّ و لا في خليـقةٍ ... اذا لم يلامسْ فعلـُــهُنَّ الأضــــالِــعا

و أكثرُ ما يؤذيكَ غدرٌ من امرئ.... مددتَ له الأيدي .. فعضَّ الأصابِعا


****

أما الاشارة :

   فالاشارة 

من غرائب الشعر و ملحه .. 

و فيها  بلاغة عجيبة تدل على بعد المرمى و فرط المقدرة ، و لا يأتي بها الا للشاعر المبرز ، و الحاذق الماهر ، 

و هي في كل نوع من الكلام لمحة دالة ..  

يقول زهير بن أبي سلمى :


فاني لو لقيتك و اتجهنا ... لكان لكل منكرة كفاء 


    فقد أشار له الى قبح ما كان يصنع لو لقيه  . 

و اعتبر البعض هذا البيت أفضل بيت في الاشارة . 

    و قال الآخر :


جعلت يديَّ وشاحا له  ... و بعض الفوارس لا يعتنق


و من أجود ما وقع في هذا النوع قول النابغة يصف طول الليل : 


   تقاعس حتى قلت ليس بمنقض ... و ليس الذي يرعى النجوم بآيب


   " الذي يرعى النجوم "

 يقصد به الصبح ، أقامه مقام الراعي الذي يروح و يغدو بالابل و الماشية ؛ فيكون تلميحه هذا عجبا في الجودة .   





*****

( القسم الرابع )




ثالثا : الجناس  و التجنيس :


    كثيرا  ما كنا  نقرأ قصيدة  .. أو نسمع بيتا من الشعر  .. فنشعر بجماله  , و روعة القصيدة  و ما فيها من  جمال في معانيها أو في  صورها  البيانية  .. و نتمتع بها لما فيها من تشابيه بليغة .. أواستعارات جميلة .. أو محسن بديعي   .. الا أننا لم نكن ندري أين هي مكامن هذا الجمال  ..  و لا نعرف أين مواطنه في القصيدة أو البيت  ..  

الا أنه و بعد أن تمكنت الذائقة الشعرية في النفوس .. و نتيجة للقراءات  المستمرة  و قراءة ما نقله لنا القدماء في كتبهم التراثية و تعريفنا بهذه المواطن الجمالية  .. أصبحنا نعرف أين تكمن هذه  المكامن و أين هي مواطنه المتمثلة بما في القصيدة من استعارات جميلة و تشابيه بليغة و ما  في القصيدة من محسنات بديعية  .. زادت من جمال معانيها و دعمت من قوتها  ..


    و من هذه المحسنات :


    التجنيس و المطابقة  "  الطباق "  فقد  سبق اليه المتقدمون و لم يبتكرهما المحدثون  . 

وهي  كما قال ابن المعتز في كتابه " البديع " عن الجناس  :

    هو أن تجيء الكلمة تجانس  أخرى في بيت شعر و كلام ، و مجانستها لها ، أن تشبهها في تاليف حروفها . 

    و عرفه أبو هلال العسكري في كتابه  " الصناعتين " :


    "  التجنيس ..

 أن يورد المتكلم كلمتين  تجانس كل منهما صاحبتها في تأليف حروفها " 


أو هو التشابه اللفظي ،

 و التام منه .. أن يتفق اللفظان في نوع الحروف و أعدادها ، و هيئاتها و ترتيبها ، يكون جناسا تاما ،  

    فقد يكون الجناس بين اسمين ، كقوله تعالى :


"  و يوم تقوم الساعة ، يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة "  


  فلفظة الساعة أسم يعني القيامة ، و ساعة يعني الزمن .


    و قد يكون الجناس بين اسم و فعل ، كقول أبي تمام :


    ما مات من كرم الزمان فانه ... يحيا لدى يحيى بن عبدالله


فيحيا هنا فعل  .. و يحيى اسم  ..  شكلا جناسا تاما  


و قد يكون الجناس ناقصا ..

اذا اختلف اللفظان  في أعداد الحروف .. فقد يكون الاختلاف بنقصان حرف أو زيادة حرف . 

كقوله تعالى :


"  و التفت الساق بالساق الى ربك يومئذ المساق "


ا لجناس الناقص بين لفظة الساق .. و لفظة المساق 


    و كقول أبي تمام :


يمدون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب 


   و قول البحتري :


لئن صدفت عنا.. فربّتَ أنفس ... صواد الى تلك الوجوه الصوادف


   و قوله أيضا ( البحتري ) :


ما زلت تقرع باب بابل بالقنا... وتزوره في غارة شعواء 

    اذن  التجنيس 

هو أن يأتي الشاعر بكلمتين مقترنتين  متقاربتين في الوزن ، غير متباعدتين في النظم . غير نافرتين في الفهم ، يتقبلهما السمع ، ولا ينبو عنهما الطبع .

 كقول يزيد بن عبدالمدان الحارثي  :


 أحالفتم جرما علينا ضغينة ...عداوتكم في غير جــرمٍ و لا دمِ 

كفانا اليكم حــدنا و حديدنا  ... و كفٌ متى ما تطلب الوتر تنقمِ 


  يقول  عبدالقاهر الجرجاني  في كتابه "  أسرار البلاغة "  :


   "  أما التجنيس  ..

 فانك لا تستحسن تجانس اللفظتبن الا اذا كان وقع معنييهما من العقل موقعا حميدا، و لم يكن مرمى الجامع بينهما مرمى بعيدا . أتراك استضعفت و استهجنت  تجنيس  أبي تمام  في قوله :  


  ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت ... فيه الظنون ، أمَذهبٌ أم مُذهب 


   و استحسنت تجنيس  القائل   :


حين نجا من خوفه و ما نجا 


أو  قوله  : 


ناظراه فيما جنت ناظراه ... أو دعاني أمت بما أودعاني   


و لا بد من القول :

ان التجنيس  اذا كان مستوفا منه  ، متفقا في الصورة . فهو من حلي  الشعر و من قلائده  و مذكورا في أقسام البديع  .

   كذلك .. 

فان الاستكثار منه  مذموم أيضا  ..

 فالألفاظ  خدم  للمعاني و المصرفة في حكمها ،  فمن نصر اللفظ على المعنى ، كمن أزال الشيء عن جهته ، و أحاله عن طبيعته ، فذلك مظنة الاستكراه ، و فيه فتح أبواب العيب    . 

 فاذا   زاد الشاعر في التجنيس ، فثلث ( أي أتى بثلاثة ألفاظ  ) .. كان ذلك فسادا في الصنعة .

 و قد تثقل  الألفاظ على السمع و القلب .

كقول أبي تمام  :


سلم على الربع من سلمى بذي سلم ...


    فلو أنه اكتفى بلفظتي سلم في مطلع البيت ، و سلم في آخره .. لكان أجمل ، و أوفى بالغرض .. الا أن لفظة سلمى عكرته .. 

أضافة الى ذلك  

فان  لفظتي سلم .. هنا هما لفظتان متقابلتان .. حيث الأولى وردت في أول البيت ، و الثانية في نهايته  .

 و المقابلة هي من المحسنات البديعية أيضا .

  وقد انفردت لفظة سلمى بغير قرين لها ، أي اقترانها بلفظة مقابلة ، 

و لو أن الشاعر ربّع أي لو أنه أتى بلفظة رابعة لصحت المقابلة ، و ان ثقلت الألفاظ على السمع و القلب ، و عاد التكلف ظاهرا عليها .

 مثال التربيع كأن يقول :


 سلم سلمت على سلمى بذي سلم .. 


     هنا تمت المقابلة بوجود أربع ألفاظ .. وان تكن ثقيلة على السمع كما قلنا . 

    و كان الأصمعي يستبشع قول الشاعر :


فما النوى  جد النوى قطع النوى ...كذاك النوى قطاعة لوصال 


    يقول الأصمعي : 

لو أن الله سلط على هذا البيت  شاةً ، فأكلت نواه ، و أراحتنا منه . 

و أنشد ابراهيم الموصلي الأصمعي قوله : 


اسرحة الماء قد سدت موارده ...أما الـــيك طريق غير مسدود 

  لحاتم حام حتى لا حيـــام له ...محلّأٍ عن طريق الماء مورود 


فقال الأصمعي : 

أحسنت في الشعر .. غير أن هذه الحاءات .. لو أنها اجتمعت في آية الكرسي لعابتها 



    و من أقبح التجنيس  .. قول المتنبي  ..  و لا يعتبره البعض تجنيسا  .  :


 و لا أضعف حتى بلغ الضعف ضعفه...و لا ضعف ضعف  الضعف بل مثله ألف 


و قوله أيضا  :


 فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا...قلاقــــل عيس  كلهن  قلاقـــــــل


    و يروى عن بعض المشايخ قوله : 

 مثل التجنيس الواحد في البيت ، كالخال الواحد في الخد ، فاذا كثر ، انتقل من الاستحسان ، الى الاستقباح  ، و ربما طمس محاسن الوجه . 

    و قد تختلف الألفاظ بترتيب الحروف ، سمي جناس أيضا كقول بعضهم : 


رحم الله امرءا أمسك ما بين فكيه ، و أطلق ما بين كفيه 


   و قول المتنبي :


 ممنعة منعمة رداح ... يكلف لفظها الطير الوقوعا 


   و من الأمثلة على الجناس الناقص  .

 قول صريع الغواني :


   وافٍ على مهجٍ .. في يوم ذي رهجٍ... كأنـــه أجلٌ .. يسعى الى أمـــلِ


  الجناس الناقص هنا  ..  بين 

مهج و رهج  ..  و أجل و أمل  


    و أحيانا يختلط الجناس  بالمطابقة ..

 من ذلك أن يقع في في الكلام مما يستعمل  للضدين ،

 كقولهم :

 جلل بمعنى صغير  ..  و جلل بمعنى عظيم  ..  

فان باطنه مطابقة ، و ان كان ظاهره تجنيسا  . 


و كذلك ان دخل النفي  ..  

كقول البحتري :


يفيض لي من حيث لا أعلم الهوى ...و يسري اليّ الشوق من حيث أعلم 


   فظاهره هنا مجانس...و هو في باطنه مطابق    أي  بين .. لاأعلم .. و .. أعلم .


و نذكر  هنا عددا من الأمثلة  على الجناس  

:

ذهب الأعالي حين تذهب مقلة...فيه بناظرها حديد الأسفل 

البحتري


و أنجدتم من بعد اتهام داركم...فيا دمع أنجدني على ساكني نجد 

أبو تمام


هن الحَمام فان كسرتَ عيافةً ... من حائهن ..  فانهـــــــن حِمام

أبو تمام


منزلتي يحفظها منزلي... و باحتي تكرم ديباجتي 

يعشى عن المجد الغبي و لن ترى ... في سؤدد أربًا لغير أريب 

البحتري


و لبعضهم 


و كل غـــــــــــنى يتـــيه بــــه غني ... فمرتجـــع بمـوت ..  أو زوال

و هب جدي طوى لي الأرض طرا ...أليس الموت يزوي ما زوى لي


و جاء قي كتاب ابن رشيق القيرواني  " العمدة في محاسن الشعر و فنونه  :




و  للتجنيس ضروب كثيرة: منها :

1- المماثلة :

 و هي  أن اللفظة مماثلة باختلاف المعنى .

 نحو قوله تعالى : 

 " و أسلمت مع سليمان "  

و قوله تعالى أيضا : 

" ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم " . 

و أنشد سيبويه : 


أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ... فليل بها الأصوات الا بغامها


فالبلدة الأولى .. صدر الناقة .. و البلدة الثانية .. الموقع أو المكان من الأرض . 

و مثله أنشده أبو عمرو بن العلاء :


عود على عود على عود خلق .


العود الأول ..  الشيخ ، و الثاني ..  الجمل المسن ، و الثالث .. الطريق القويم قد ذلل بكثرة الوطء عليه .

و من مليح هذا النوع قول ابن الرومي


    للسود في السود آثار تركن به... لمع من البيض تثني أعين البيض 


السود الأولى : الليالي ، و الثانية..  شعرات الراس و اللحية ،  و البيض الأولى: الشيب ، و الثانية : النساء .

2- والتجنيس المطلق : 

ما اتفقت فيه الحروف دون الوزن ..

 كقول جرير :  


و ما زال معقولا عقال من الندى... و ما زال محبوسا عن الخير حابس


و قال خلف بن خليفة الأقطع :


فان يشغلونا عن أذان فاننا ... شغلنا وليدا عن غناء الولائد


يعني الوليد بن زياد بن عبدالملك  . 

و قال البحتري : 

 

و ذكرنيك و الذكرى عنـــاء ... مشابه منـــك بيّـــنةِ الشكـــــولِ

نسيم الروض في ريح شمال ... و صوب المزن في راح شمولِ 


3- التجنيس الناقص : 

و هو على ضروب كثيرة .. 

منها

 أن تنقص أو تزيد حرفا .

 نحو قول أبي تمام :


يمدون من أيد عواص عواصم ... تصل بأسياف قواض قواضب 


و هي سواء لولا الميم و الباء الزائدتين .

و منها أيضا 

أن تتقدم الحروف أو تتأخر .

 كقول أبي تمام :


بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك و الريب


في قوله الصفائح و الصحائف .. 

و قول أبي الطيب : 


ممنعة منعمـــــــة رداح ... يكلف لفظها الطير الوقوعا 


4- المضارعة أو المشاكلة  :

 و هي أن تتقارب مخارج الحروف ..  و في كلام العرب الكثير منه .

كقوله تعالى :

" فهم ينهون عنه ، و ينأون عنه " 

وقول ابن هرمة :


و أطعن للقرن يوم الوغى ...و أطعم في الزمن الماحل


و كقول أبي تمام :


رب خفض تحت الثرى و غناء  ...من عناء و نضرة من شحوب 


و قال غيره :


ان المكارم في المكا ... ره و المغائم في المغارم 


و قد أحسن أبو فراس الحمداني : 


سكرت من لحظه لا من مدامته ... و مال بالنوم عن عيني تمــايله

و ما السلاف دهتني بل سوالفه ... ولا الشمول زهتني بل شمــائله

لوى بصبري أصـــداغ لوين به ... وغلّ صبري ما تحوي غلائله



و من  في هذا الموضوع قولي   في أبيات :   


و سبكنـــا الأحـــلامَ  نـــدًا  و وردًا... و سكبنـا الأشـواقَ  خمرًا عتيقـــا   


سبكنا ..  سكبنا


و في بيت آخر أقول :   


أعالج الوجد في قلبي فيخذلني ... و لا عج الوجد في الأحشاء يستعر  


أعالج  ..  لاعج 

و من أجمل الجناس  قولي   :  


ملكتِ القوادَ فما عدتُ أدري  ... أسير أنا ؟ .. ام فؤادي الأسير؟

و حيث تكونيـــن يهواكِ قلبي ... و حيث يسيرالهوى بي .. اسير


و قولي  أيضا :  


يا نسمة من شذا فجر معطرة ... تغفو على لجة النجوى .. فتستعر

قد أفردت من سنا الماضي جدائلها ... جــداولا من سنا التاريح .. تنهمر  


بين الجدائل   ..  و الجداول  


وقبل أن ننهي هذا البحث ، نقول : ان الجناس بحثه يطول.. و أنواعه كثيرة ، و أرجو ان أكون أوضحت المطلوب 


*****

**************


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق