( يوميات رمضان ٢١)
- عيون زرقاء -
................
كان الشتاء هذا الموسم مختلفا ، البرد شديد ، والدفئ يبحث له عن مدفأة ، المنزل القاطن في حارة شعبية قديمة ، طأطأ رأسه ربما كان يخشى شدة البرد ، شيماء ذات العيون الزرقاء تلج عقدها الثاني ، أصابها الصداع من الخبر الآتي من رحم الزمن ، هذا الزمن الذي يبرمج نفسه على توقيت لا يتبدل ، خصر ملتف ، شعر بضفائر شقراء ، وأشياء أخرى ، إنها شيماء البتول ، ترمقها بنظرة فتتعلق بها ، هل هي النظرة الأولى التي جعلت حسن يلتفت إليها ... الشاب الذي قارب من نهاية العقد الثاني من العمر ، لا تنقصه وسامة الشاب الأنيق ، مظهر يوحي بأنه ابن ارستقراطي ، منذ مدة ليس بالطويلة اختتم دراسته الجامعية ، أصبح حسن مهندسا ، فرحت الأم ، وربما فرح جوقة العميان معها آنذاك ، تقرب إلى الفتاة بأناقته المعهودة ، لم يكن يحمل عنوانا سيئا داخله ( الباب تعرفه ) قالت له ذات مرة ، وهكذا كان اللقاء الرسمي الأول ، حفيف أوراق شجر النخيل يحتفل بولادة حب جديد ، بينما رقصت العصافير طربا على لحن أمل آت .
البرد مازال يكسو منزل شيماء ، لم تكن تخشى منه ، كان خوفها على أمها التي عانقت عقدها السادس ، لم تكن أما فقط ، بل حياة كاملة .
تقلبت على سريرها ذات ليلة من ليالي كانون القاسية ، اعتصرها ألم غريب ، دنت شيماء منها .
- مابك يا أماه ...
- لا شيء يابنتي ، لاتقلقي ، ألم عابر ...
مرت الليلة ثقيلة كما سلحفاة هرمة ، اتصلت بخطيبها ( حبيبي أمي تعاني من شيء ما ... ) ،
حضر لتوه بسيارته الحمراء ، لم يتخل عن اناقته ، كيف يكون ذلك وهو ( الباش مهندس ) ، انصاع الجميع لكلام الطبيب ، لا بد من بعض التحاليل ، كتبها على ورقة بخط غير مفهوم المعالم ، لم تكن قسمات وجهه ترتدي ثياب الأمل ، ساعات مضت كأنها دهر كامل ، عندما أمسك الطبيب بالورقة .
في الخارج كانت العاصفة تعلن القدوم ، المطر يصفع وجه الأرض ، الرياح تهشم الأغصان ، هاهو السيل يتشكل .
تجهم كثيرا ذاك الطبيب ، فلا التحاليل أعجبته ، ولا تلك الصور الشعاعية التي لم تبلغ فطامها بعد .
- إنها تعاني من قصور كلوي ...
- أكتب لنا دواءا أيها الطبيب ... قالت شيماء ، انفرد بها في زاوية غرفة العيادة ، قبل أن يصعقها بالخبر الآخر القادم من رحم الموت ...
- إنها تعاني من الفشل الكلوي التام ، لابد لها من متبرع كي تستمر على قيد الحياة ...
الدموع تصعد نحو السماء ، والأكف تتجه معها ، سمع حسن الحديث ، ربما وقتذاك أصابته بعض الغيرة ، والخوف أيضا ، لكنه آثر الصمت ...
( لابد من متبرع ) قالت شيماء الجميلة لأفراد العائلة ، الصمت كان يشتد مع العاصفة التي مازالت ترزح على صدر القرية ، ضجيج الهمس يعانق ستارة خضراء اللون ، لا أحد يجيب ، ياللرعب الذي طرق الباب دون رحمة ، مازال المطر يصفع وجه الجميع ،
- يارب ليس لنا سواك منجيا ، إنها أمي ... قالت شيماء بصوت سمعته جمهرة لم تبلغ سن رشد الرحمة .
- أنا أتبرع لأمي ، لا عليكم ، بإمكاني أن أكمل حياتي بكلية يتيمة ...
كان قرارها جازما ، فلا وقت للهو في أحضان الكلمات الفارغة ، اعترضها حسن ، لكن من يعوضها عن أمها ، أشجار النخيل كانت تؤدي صلاة الفجر ...
ورقة صغيرة وصلت إلى شيماء ، إنه حسن الأنيق ( انسيني يا ذات العيون الزرقاء ... ) خبر أشد قسوة من وقع العاصفة الهوجاء التي لم ترحل بعد ، بعض الدموع تعانق حبات المطر ، انتهى كل شيء فجأة ...
عادت الأم المريضة إلى حياتها ، كان الربيع قد أطل من نافذة صغيرة ، وربما من ثقب إبرة ، الأزهار تنشر عبيرها على نياشين المنزل الصغير ، الفراشات تتهادى كما عرائس صغيرة ، كليتان وامرأتان ، حدث نادر لكنه يحمل بين ثناياه رحمة الكون ، هكذا تمتم يومها جارهما الأسمر ، الشك لم يساوره بالزواج من شيماء ،
أشهر تمر مهرولة ، الصيف يطرق الأبواب ، ليلة اعتيادية ، الأم تنام في مخدعها ، النافذة مواربة لدخول بعض الهواء ، شيماء تحلم بأشياء جديدة ، ربما كان الرجل الأسمر قد ولج ذاكرتها.
فجأة ضجيج يكسر سكون الصباح الذي مازال قيد الولادة ، صياح الديكة يملأ المكان ، فلاح ينتعل فأسه ، يرمي به ويهرول نحو مصدر الصوت ، الضجيج أمسى عويلا ، هرعت ذات العيون الزرق إلى غرفة أمها ، بذات الوقت كان الفلاح قد وصل ، كل شيء كان قد انتهى ، انتهى كل شيء يا شيماء ...
الدموع أمست قطع جليد ، الحياة يجب أن تستمر ،
رن جرس الهاتف ، عندما أمسكت بالسماعة جاءها صوت حسن ، بعض الثواني تجري نحو قلبها وعقلها ، أغلقت الهاتف دون أن تنبس بكلمة واحدة ...
...............
وليد.ع.العايش
- عيون زرقاء -
................
كان الشتاء هذا الموسم مختلفا ، البرد شديد ، والدفئ يبحث له عن مدفأة ، المنزل القاطن في حارة شعبية قديمة ، طأطأ رأسه ربما كان يخشى شدة البرد ، شيماء ذات العيون الزرقاء تلج عقدها الثاني ، أصابها الصداع من الخبر الآتي من رحم الزمن ، هذا الزمن الذي يبرمج نفسه على توقيت لا يتبدل ، خصر ملتف ، شعر بضفائر شقراء ، وأشياء أخرى ، إنها شيماء البتول ، ترمقها بنظرة فتتعلق بها ، هل هي النظرة الأولى التي جعلت حسن يلتفت إليها ... الشاب الذي قارب من نهاية العقد الثاني من العمر ، لا تنقصه وسامة الشاب الأنيق ، مظهر يوحي بأنه ابن ارستقراطي ، منذ مدة ليس بالطويلة اختتم دراسته الجامعية ، أصبح حسن مهندسا ، فرحت الأم ، وربما فرح جوقة العميان معها آنذاك ، تقرب إلى الفتاة بأناقته المعهودة ، لم يكن يحمل عنوانا سيئا داخله ( الباب تعرفه ) قالت له ذات مرة ، وهكذا كان اللقاء الرسمي الأول ، حفيف أوراق شجر النخيل يحتفل بولادة حب جديد ، بينما رقصت العصافير طربا على لحن أمل آت .
البرد مازال يكسو منزل شيماء ، لم تكن تخشى منه ، كان خوفها على أمها التي عانقت عقدها السادس ، لم تكن أما فقط ، بل حياة كاملة .
تقلبت على سريرها ذات ليلة من ليالي كانون القاسية ، اعتصرها ألم غريب ، دنت شيماء منها .
- مابك يا أماه ...
- لا شيء يابنتي ، لاتقلقي ، ألم عابر ...
مرت الليلة ثقيلة كما سلحفاة هرمة ، اتصلت بخطيبها ( حبيبي أمي تعاني من شيء ما ... ) ،
حضر لتوه بسيارته الحمراء ، لم يتخل عن اناقته ، كيف يكون ذلك وهو ( الباش مهندس ) ، انصاع الجميع لكلام الطبيب ، لا بد من بعض التحاليل ، كتبها على ورقة بخط غير مفهوم المعالم ، لم تكن قسمات وجهه ترتدي ثياب الأمل ، ساعات مضت كأنها دهر كامل ، عندما أمسك الطبيب بالورقة .
في الخارج كانت العاصفة تعلن القدوم ، المطر يصفع وجه الأرض ، الرياح تهشم الأغصان ، هاهو السيل يتشكل .
تجهم كثيرا ذاك الطبيب ، فلا التحاليل أعجبته ، ولا تلك الصور الشعاعية التي لم تبلغ فطامها بعد .
- إنها تعاني من قصور كلوي ...
- أكتب لنا دواءا أيها الطبيب ... قالت شيماء ، انفرد بها في زاوية غرفة العيادة ، قبل أن يصعقها بالخبر الآخر القادم من رحم الموت ...
- إنها تعاني من الفشل الكلوي التام ، لابد لها من متبرع كي تستمر على قيد الحياة ...
الدموع تصعد نحو السماء ، والأكف تتجه معها ، سمع حسن الحديث ، ربما وقتذاك أصابته بعض الغيرة ، والخوف أيضا ، لكنه آثر الصمت ...
( لابد من متبرع ) قالت شيماء الجميلة لأفراد العائلة ، الصمت كان يشتد مع العاصفة التي مازالت ترزح على صدر القرية ، ضجيج الهمس يعانق ستارة خضراء اللون ، لا أحد يجيب ، ياللرعب الذي طرق الباب دون رحمة ، مازال المطر يصفع وجه الجميع ،
- يارب ليس لنا سواك منجيا ، إنها أمي ... قالت شيماء بصوت سمعته جمهرة لم تبلغ سن رشد الرحمة .
- أنا أتبرع لأمي ، لا عليكم ، بإمكاني أن أكمل حياتي بكلية يتيمة ...
كان قرارها جازما ، فلا وقت للهو في أحضان الكلمات الفارغة ، اعترضها حسن ، لكن من يعوضها عن أمها ، أشجار النخيل كانت تؤدي صلاة الفجر ...
ورقة صغيرة وصلت إلى شيماء ، إنه حسن الأنيق ( انسيني يا ذات العيون الزرقاء ... ) خبر أشد قسوة من وقع العاصفة الهوجاء التي لم ترحل بعد ، بعض الدموع تعانق حبات المطر ، انتهى كل شيء فجأة ...
عادت الأم المريضة إلى حياتها ، كان الربيع قد أطل من نافذة صغيرة ، وربما من ثقب إبرة ، الأزهار تنشر عبيرها على نياشين المنزل الصغير ، الفراشات تتهادى كما عرائس صغيرة ، كليتان وامرأتان ، حدث نادر لكنه يحمل بين ثناياه رحمة الكون ، هكذا تمتم يومها جارهما الأسمر ، الشك لم يساوره بالزواج من شيماء ،
أشهر تمر مهرولة ، الصيف يطرق الأبواب ، ليلة اعتيادية ، الأم تنام في مخدعها ، النافذة مواربة لدخول بعض الهواء ، شيماء تحلم بأشياء جديدة ، ربما كان الرجل الأسمر قد ولج ذاكرتها.
فجأة ضجيج يكسر سكون الصباح الذي مازال قيد الولادة ، صياح الديكة يملأ المكان ، فلاح ينتعل فأسه ، يرمي به ويهرول نحو مصدر الصوت ، الضجيج أمسى عويلا ، هرعت ذات العيون الزرق إلى غرفة أمها ، بذات الوقت كان الفلاح قد وصل ، كل شيء كان قد انتهى ، انتهى كل شيء يا شيماء ...
الدموع أمست قطع جليد ، الحياة يجب أن تستمر ،
رن جرس الهاتف ، عندما أمسكت بالسماعة جاءها صوت حسن ، بعض الثواني تجري نحو قلبها وعقلها ، أغلقت الهاتف دون أن تنبس بكلمة واحدة ...
...............
وليد.ع.العايش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق