الجمعة، 16 يونيو 2017

صندوق عجيب ///// للمبدعه //// نجلاء بلحاج

صندوق عجيب
كنت مستلقية أتفرج على التلفاز دون أي متعة ولا مؤانسة ،فقط هو بعض الفراغ الذي يجعلني كما غيري من حين لآخر أستسلم لتلك الحلول الواهية البائسة ...كأن أنتهك وحدتي بحضور لا يليق من المشاهد العارية من الذوق والإبداع أو أكسر الصمت بقهقهات نكراء وتهريج مقيت من هذا المنشط المبتذل أو آراء من ذاك المحلل المتحذلق و لا سلطان على لسانه سوى الحماقة والتفاهة وقلة الوعي بقيمة المتتبعين ...وفجأة سمعت صوتا محببا ساحرا هبت به رياح الشوق لتلك الأيام ،ورأيتها بعكازها العتيق الذي يشهد على طول كفاح تلك المرأة العظيمة رغم قسوة الحياة عليها وإنهاكها لها وكم كنت أرى في تمسكها به بقاء لتلك القامة النحيفة منتصبة رغم أن جدتي في تلك الفترة تشرف على المائة من العمر ومن شدة تعلقي بتلك العجوز تعلقت بذاك العكاز البالي والمحرمة التي تغطي بها شعرها المضفور في لون الحليب وتلك الوسادة التي تدس تحتها بعض الهدايا لتقدمها لأحفادها فقط من ترضى عنهم ويقدمون لها الولاء ...سمعتها وهي تناديني : زينة تعالي ،واملئي لي برادتي ماء .فأنا أكاد أموت عطشا ..وهرولت كما عادتي مع أن ما أمرتني به حينها لم يكن بسيطا أو هينا فأنا بنت الخامسة سنوات والجرة ثقيلة وكل خشيتي لو تقع من يدي وتكسر وتغضب جدتي وهل غضبها له حدود ؟ فمن يغضب جدتي يقام عليه الحد كمن ارتكب ذنبا أو أعلن العصيان ....وها أنا أحمل الجرة وأمشي مثقلة بتلك المسؤولية ، وقلبي يدق بين ضلوعي وكلي رغبة في الوصول للماجل الذي هو في ركن من بهو الدار الفسيح بسلام...وأنهي العملية بنجاح وأفوز بحب جدتي وحبها تراتيل عشق ، سخاء يهطل به فسح السماء وأول ما تبدأ به لسان عذب ناطق بأجمل الدعوات التي تشحنني بها وتجعلني أطير كملاك ، توصلني بها لابواب الجنان ، فأقترب منها وقلبي الصغير يخفق بشدة وحمرة تكسو وجهي فالإقتراب من جدتي ليس مباحا في كل الأحوال ،هيبتها تفرض علي حفظ المسافات ولكن تلك لحظة تجل ،حب ،عطف كلها استثناء وأقصى ما أفعله هو أن الصق شفتي بوجهها المجعد وأقبلها بسرعة ولكن بلهفة لا يعرف لها مثيل ،قبلة ليست كباقي القبل ،كمن يقبل التاريخ أو قمم الجبال ،قبلة يسجلها تاريخي الهزيل أقوى بطولاتي فتصيرني أميرة ، تمتلك حب الأصل والجذور ...ولا يقف الأمر عند الدعاء ،....وهذه لحظة أخرى لاكتشاف حنان جدتي إذ تدير رأسها يمنة ويسرة حتى تتثبت من أن المكان بلا دخلاء وتدخل يدها في طوقها وتخرج كومة لست أدري كيف تتحملها المسكينة ولكن بالتأكيد تلك تمثل إحدى صناديق جدتي المغلقة التي لا تفتح إلا ساعة الرضا وبيديها المرتعشتين تفتح العقدة تلو العقدة وخيالي يزودني بأجمل التصورات وتهديني عشر مليمات ....أه لو تعلمون ما معنى أن أحضى في ذاك الزمن بتلك القيمة ....قد لا تتمكنون من تصور أنني حينها أغنى إخوتي وسيسعى الكل لإرضائي حتى يأخذوا مني تلك القطعة الذهبية ولكن هدية جدتي من يفرط فيها تعاقبه أشد عقاب فلا يحلم أبداىبشيء من عندها ولو باس لها الأقدام ...فجدتي لا تتسامح مع من يفرط في هداياها ...لأنه فرط في حبها...وآخذ الكنز وألتزم بيني وبين ربي بالحفاظ عليه وفاء لحليمة ، فأنا لا زلت أجهل قيمة المال ولكن قلبي ووجداني يلتقطان معاني الحب والحنان....ومازال سخاء جدتي وكرمها متواصلا فالقبلة هبة والمليمات جود ولتكتمل معاني جدتي تقول لي : هيا ساعديني زينة في حمل البرادة لغرفتي ورغم العناء وصعوبة الأمر إلا أنني أقوم به بكل ما أحمله لجدتي من احترام وتقدير وتشرع أمامي غرفتها....كانت بخيالي قصرا من القصور،متاهة كمغارة علي بابا لما فيها من الأشياء العتيقة ولا يمكن لأحد أن يسأل عن قيمتها ، بالمختصر ،تلك حياة جدتي وسنينها ، تلك أساطير ها وذكريات تجعلها تحيا فهل تتخلى عنها ؟ أبدا تلك أمك حليمة ولو تنقصوا لي شيئا من أشيائي فكأنما تسارعون بموتي و كم كانت كلماتها تلك ترعبنا فنحن جميعا لا نحتمل اليوم من دونها فهي نكهة اللحظة وتفاصيلها ....وكل الناس يدعون لها بطول العمر والبقاء..وتشتد رغبتي في معرفة ما ستغدقه علي تلك العجوز ويأتيني الرد إذ ترفع جدتي وسادتها وتعطيني قطعة حلوى ... حلوى مذاقها مازال يشهد به لساني لذتها لا تنتهي وتغمر قلبي سعادة لا أعرف منها اكتفاء.....وأجدني أ مسح دموعا كست وجهي فأمد يدي في استرخاء لأطفئ التلفاز الممل فقد زارني طيف جدتي بأحلى صندوق عجيب على الإطلاق : هو القلب الساكن فينا والحافظ لمحبتنا والمؤمن على أسرارنا ...وفجأة تنبهت لقدوم ابني فسارعت بغلق دفتري مرددة في سري : نامي حبيبتي في سلام فحفيدتك مازالت تحافظ على هداياك ولا يمكن أن أنسى تلك الذكريات ....حليمة أنت. ووجودك كما ذكراك زينة تشرق بجمالها ومعانيها هذه الحياة


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق