الأحد، 20 نوفمبر 2016

عين على كتب التراث بقلم خالد خبازة

عين على كتب التراث
عاشق ذو مروءة
عن الأصمعي قال :
دخلت البصرة أريد بادية بني سعد ، وكان على البصرة يومئذ ، خالد بن عبدالله القسري ، فدخلت عليه يوما ، فوجدت قوما متعلقين بشاب ، ذي جمال ، و كمال و أدب ظاهر ، بوجه زاهر ، حسن الصورة ، طيب الرائحة ، جميل البزة ، عليه سكينة ووقار ، فقدموه الى خالد ، فسألهم عن قصته فقالوا : هذا لص ، أصبناه البارحة في منازلنا . فنظر اليه فأعجبه حسن هيأته ونظافته ، فقال : خلوا عنه . ثم أدناه منه ، وسأله عن قصته ، فقال : ان القول ما قالوه ، والأمر على ما ذكروه . فقال له : فما حملك على ذلك و أنت في هيأة جميلة ، وصورة حسنة ؟
قال : حملني الشره في الدنيا ، وبذا قضى الله سبحانه و تعالى .
فقال له خالد : ثكلتك أمك , أما كان لك في جمال وجهك ، وكمال عقلك ، وحسن أدبك ، زاجر عن السرقة ؟ا
قال : دع عنك هذا أيها الأمير ، و أنفذ ما أمرك الله تعالى به .فذلك بما كسبت يداي ، و ما الله بظلام للعبيد .
فسكت خال ساعة يفكر في أمر الفتى ، ثم أدناه منه و قال له : ان اعترافك على رؤوس الأشهاد قد رابني ، و ما أظنك سارقا . و ان لك قصة غير السرقة ، فأخبرني بها .
فقال : أيها الأمير ، لا يقع في نفسك سوى ما اعترفت به عندك ، و ليس لي قصة أشرحها لك ، الا أني دخلت دار هؤلاء ، فسرقت منها مالا ، فأدركوني وأخذوه مني ، ثم حملوني اليك .
فأمر خالد بحبسه ، و أمر مناديا ينادي في البصرة : ألا من أحب أن ينظر عقوبة فلان اللص و قطع يده ، فليحضر من الغد .
فلما استقر الفتى في الحبس ، ووضعت رجلاه في الحديد ، تنفس الصعداء ، ثم أنشأ يقول :
هددني خالد بقطغ يدي ... ان لم أبح له بقصتها
فقلت هيهات أن أبوح بما ... تضمن القلب من محبتها
قطع يدي بالذي اعترفت به ...أهون للقلب من فضيحتها
فسمعه الموكلون به ، فأتوا خالدا و أخبروه بذلك ، فلما جن الليل ، أمر باحضاره عنده ، فلما حضر استنطقه ، فوجده أديبا ، عاقلا لبيبا ظريفا ، فأعجب به ، فأمر له بطعام ، فأكلا ساعة .
ثم قال له خالد : قد علمت أن لك قصة غير السرقة ، فاذا كان غدا ، و حضر الناس و القضاة ، و سألتك عن السرقة ، فانكرها ، و اذكر فيها شبهات تدرأ عنك القطع ، فقد قال رسول الله ( ص ) : " ادرؤؤا الحدود بالشبهات " .
ثم أمر به الى السجن ، فلما أصبح الناس ، فلم يبق بالبصرة رجل و لا امرأة ، الا حضر، لرؤية عقوبة ذلك الفتى ، و ركب خالد ، و معه وجوه أهل البصرة و غيرهم ، ثم دعا بالقضاء ، و أمر أن يؤتي بالفتى ، فحضر وهو يرفل في قيوده ، و لم يبق أحد من النساء الا و بكى عليه ، و أرتفعت أصوات النساء بالبكاء و النحيب ، فأمر بتسكيت الناس .
ثم قال خالد : ان هؤلاء القوم ، يزعمون أنك دخلت دارهم ، وسرقت مالهم . فما تقول ؟
قال : صدقوا أيها الأمير ، لقد دخلت دارهم ، و سرقت مالهم .
قال خالد : لعلك سرقت دون النصاب ؟
قال : بل سرقت نصابا كاملا .
قال فلعلك سرقته من غير حرز مثله ؟
قال : بل من حرز مثله .
قال : فلعلك شريك القوم في شيء منه ؟
قال : بل هو جميعه لهم لا حق لي فيه .
فغضب خالد ، وقام اليه بنفسه ، وضربه بالسوط على وجهه ، و قال متمثلا :
يريد المرء ان يعطى مناه ... و يأبى الله الا ما أرادا
ثم دعا بالجلاد ليقطع يده ، فحضر و أخرج السكين ، و مد يده ووضعها تحتها ، فبرزت جارية من بين النساء ، عليها آثار وسخ ، فصرخت و رمت نفسها عليه ، و أسفرت عن وجه كأنه البدر ، و ارتفع للناس ضجة عظيمة ، كاد أن تقع فتنة ، ثم نادت بأعلى صوتها ، و مدت يدها برقعة قرأها خالد ، فاذا فيها :
أخالد ، هذا مستهام متيم ... رمته لحاظي من قسي الحمالق
فأصماه سهم اللحظ مني فقلبه ... حليف الجوى من دائه غير فائق
أقر بما لم يقترفه لأنه ...رأى ذاك خيرا من هتيكة عاشق
فهلا على الصب الكئيب لأنه ... كريم السجايا في الهوى ، غير سارق
فلما قرأها تنحى و انزوى عن الناس ، و أحضر المرأة ، ثم سألها عن القصة ، فأخبرته أن الفتى عاشق لها ، و هي له كذلك ، و أنه كان يريد زيارتها و يعلمها بمكانه ، فلما أحس أن القوم شعروا به ، جمع قماش البيت كله ووضعه في صرة ، فأخذوه وقالوا انه سارق ، و أتوا به اليك ، فاعترف بالسرقة ، و أصر على ذلك لكي لا يفضحني بين اخوتي ، و هان عليه قطع يده ، لكي يسترني و لا يفضحني ، كل ذلك لغزارة مروءته و كرم نفسه .
فقال خالد : انه خليق بذلك .
ثم استدعى الفتى اليه ن و قبله بين عينيه ، و أمر باحضار الشيخ والد الجارية و قال له : انا عزمنا على قطع يد الفتى ، و لكن الله عصمه من ذلك ، و قد أمرت له بعشرة آلاف درهم لعرض يده للقطع ، و حفظه على عرضك و عرض ابنتك ، و صيانته لكما من العار .و قد أمرت لابنتك بعشرة آلاف درهم ، و أنا أسألك ان تأذن لي بتزويج ابنتك من الفتى .
فقال الشيخ : قد أذنت أيها الأمير بذلك .
قال الأصمعي : فما رأيت يوما أعجب منه ، أوله بكاء ، و آخره فرح و سرور .
.....
اذا نام الحارس افاقت العقرب
قال الفضيل بن الهاشمي :
كنت مع ابنة عمي نائما على سرير .. اذ ظهرت لي بعض الجواري ، فنزلت فقضيت بعض حاجتي . فبينا أنا راجع ، اذ لدغتني عقرب ، فصبرت حتى عدت الى موضعي من السرير، فغلبني الوجع ، فصحت ، فقالت لي ابنة عمي : مالك ؟ فقلت : لدغتني عقرب . فقالت : و على السرير عقرب ؟ قلت : نزلت لقضاء حاجة فاصابني . ففطنت . فلما أصبحت ، جمعت خدمها و استحلفتهن ألا يقتلن عقربا في دارها الى سنة .
ثم قالت :
اذا عصي الله في دارنا ... فان عقاربنـا تغضب
و دار اذا نام حراسها ... أقام الحدود بها العقرب
....

من كتاب " اعلام الناس بما وقع للبرامكة " للآتليدي
خالد خبازة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق