لغتنا الجميلة
في الشعر و قواعده
في الجوازات و الضرورات .. وفقا لما جاء في كتب التراث العربي - القسم الثالث :
كنا تحدثنا عن الضرورات و الجوازات في الشعر العربي
و نتابع البحث في الموضوع فنقول :
و مما يجوز للشاعر المولد ارتكابه من الضرورة في شعره ، أن يصرف ما لا ينصرف ، لأن أصل الأسماء كلها الصرف ، و انما طرأت عليها علل منعتها من الصرف ، فاذا صرف الشاعر مالا ينصرف ، فقد رده الى اصله . قال الشاعر:
لم تتلفع بفضل مئزرها ... دعدٌ ، و لم تُغْذَ دعدُ بالعلب
العلب : جمع علبة ، و هي قدح من خشب ضخم يحلب فيه ، فصرف دعدا ، و ترك الصرف في بيت واحد . و أما أن يأتي الشاعر الى ما ينصرف ، فيترك صرفه ، فلا يجوز ، لأنه اخراج الشيء عن اصله ،. و اخراج الأشياء عن اصولها يفسد مقاييس الكلام فيها . و احتج الأخفش على جواز ذلك ، بقول العباس بن مرداس السلمي :
فما كان حصن و لا حابس ... يفوقان مرداس في مجمعِ
فترك صرف مرداس ، و هو اسم منصرف .
و قال أبو علي : هذا لا يقاس عليه .
و مما يجوز للشاعر المولد استعماله ضرورة .. قصر الممدود .. و لا يجوز له مد المقصور ، لأنه خروج على الأصل .
و أما قصر الممدود ، فهو رد الشيء الى اصله . قال الشاعر :
بكت عيني و حق لها بكاها ... و ما يغني البكاء و لا العويل
فقصر البكاء و مدّه في بيت و احد .
و مما لا يجوز الاحتجاج به في مد المقصور ، لأنه على غير أصل الوضع الذي اتفق العلماء عليه ، قول الفرزدق :
أبا حاضرٍ ، من يزنِ يظهر زناؤه ... و من يشرب الخرطوم يصبح مسكّرا
فمد لفظة .. الزنى .. و هو ممدود في لغة أهل نجد . و القصر فيه لأهل الحجاز .. و هي لغة القرآن ، و عليها الاعتماد ، و علة من مدَّ الزنى ، انه جعله فعلا من اثنين ، كقولك : راميته رماء ، و زانيته زناء . و من قصره ذهب الى أن الفعل من أحدهما ، . و في الجملة ، فانه منقول مقول لا يقاس غيره عليه . و يكتب الزنى بالقصر بالياء ، لأنه من زنى يزني ،
فأما قول الآخر :
سيغنين الذي أغناك عني ... فلا فقر يدوم و لا غناء
فالرواية الصحيحة ، أن يكون أوله مفتوحا ، لأن معنى الغِنى و الغَناء واحد . و الشاعر اذا اضطر الى مد المقصور ، غيّر أوله ووجهه ، الى ما يجوز استعماله . كقول الراجز :
و المرء يبليه بَلاء السربال ... كر الليالي و انتقال الأحوال
فلما فتح الباء من البلى ، ساغ له المد ، و مثل هذا كثير .
و يجوز للشاعر الاجتزاء بالضمة عن الواو ضرورة كقول الشاعر ( العجير السلولي) و يقال انها لـ ( المخلب الهلالي ) :
فبيناهُ يشري رحله ، قال قائل ... لمن جمل رِخوُ الملاط ذلولُ
كان الأصل .. فبينا هو ، فلما اجتزأ بالضمة ، حذف الواو .
و يجوز للشاعر المولد ، أن يرد المنقوص الى أصله في الاعراب ضرورة ، فيضم الياء في الرفع ، و يكسرها في الجر ، كما تفتح في النصب ، لأن الضمة و الكسرة منويتان مقدرتان في الياء و ان سقطتا ، فيقول في قاض في حال الرفع " قاضيٌ " و في حال الجر " قاضيٍ " غير مهموز ، و كذلك في جواري و غواني . قال الشاعر " أبو خراش الهذلي " :
تراه و قد فات الرماة كأنه ... أمام الكلاب مصغيُ الخد أصلمُ
فضم ياء مصغ . و قال عبيد الله بن قيس الرقيات :
لا بارك الله في الغوانيِّ هل ... يصبحن الا لهن مطّلبُ
فكسر الياء في الغواني .
ما يجوز في الشعر ، مما لا يجوز في الكلام ( النثر )
قال أبو حاتم :
أبيح للشاعر ما لم يبح للمتكلم ، من قصر الممدود ، و مد المقصور ، و تحريك الساكن و تسكين المتحرك ، و صرف ما لا ينصرف ، و حذف الكلمة ما لم تلتبس بأخرى، كقولهم ( فل ) من ( فلان ) و (حم ) من (حمام ) .
قال الشاعر :
و جاءت حوادث من مثلها ... يقال لمثلك ، ويهاً فُل
و قال مسلم بن الوليد :
سل الناس ، اني سائل الله وحده ... و صائن و جهي عن فلان و عن فلِ
يقصد .. عن فلان
و قال آخر :
دعاء حمامات تجاوبها حم
و من المحذوف أيضا قول الشاعر أبي كاهل اليشكري يصف فرخة عقاب ، شبه راحلته بها :
كأن رحلي على شغواء جادرة ... ظمياء قد بل من طل خوافيها
لها أشارير من لحم تتمزه ... من الثعالي ، ووخز من أرانيها
يريد من ( الثعالب .. و بأرانيها .. من الأرانب ) . و شغواء : العُقاب ، طير جارح . و جادرة : مظهرة أظافرها . و الأشارير : جمع اشرارة و هي القطعة من القديد ، و قيل من الحصفة أو الشقة ينشر عليها الأقط ليجف ، و التتميز : التقديد . و الوخز : شيء ليس بالكثير
و مثله قول الشاعر "
و لضفادي جمّهِ نقانق .. يريد ( الضفادع )
و من المحذوف قول كعب بن زهير :
ويلُمِّها خلة لو أنها صدقت ... في وعدها أو لو ان النصح مقبول
يريد .. " ويل لأمها " .
و منها قولهم " لاه أبوك " يريدون " لله أبوك " . . قال الشاعر :
لاهِ ابن عمك لا يخـا ... ف المبديات من العواقب
و كذلك الزيادة أيضا ، اذا احتاجوا اليها في الشعر ، فمن ذلك قول زهير
ثم استمروا ، و قالوا : ان موعدكم ... ماء بشرقي سلمى فَيْدُ أو ركك
قال الأصمعي : سألت بجنبات فيد عن ركك ، فقيل : ماء ههنا يسمى " ركا " فعلمت أن زهيرا احتاج فضعّف . و منه قول القطامي :
و قول المرء ينفذ بعد حين ... مواضع ليس ينفذها الابار
يريد ( الابر ) و مثله قولهم ( كلكال ) من كلكل . و نظير ذلك كثير في الشعر لمن تتبعه .
و أما قصرهم الممدود فجائز في أشعارهم، و مد المقصور عندهم قبيح . و قد يستجاد في الشعر على قبحه . مثل قول حسان بن ثابت :
قفاؤك أحسن من وجهه ... و أمك خير من المنذر
و أنشد أبو عبيدة :
يا لك من ثمرة و من شيشاء ... ينشب في الحلق و في اللهاء
فمد اللهى ، و هو جمع لهاة ، كما قالوا قطاة و قطى ، و نواة و نوى . و الشيشاء : التمر الذي لا يشتد نواه
أما تحريك الساكن ، و تسكين المتحرك ، فمن ذلك قول لبيد بن ربيعة :
ترّاك أمكنة اذا لم أرضها ... أو يرتبطْبعض النفوس حمامُها
و مثله قول امرئ القيس :
فاليوم أشربْ غير مستحقب ... انما من الله و لا واغلِ
ففي البيت الأول سكن المتحرك في كلمة " يرتبط " ، و في البيت الثاني في كلمة " أشرب " .
و غير مستحقب : تعني ، غير محتمل . و الواغل : الآثم .
و منه أيضا قول أمية بن أبي الصلت :
تأبَى فما تطلعْ لهم في وقتها ... الا معذبة و الا تُجْـلدُ
و قد استشهد سيبويه على تسكين المتحرك في كتابه ، بقولهم :
عجب الناس و قالوا ... شعر وضاح اليماني
انما شعريَ قَنْدٌ... قد خُلِـطْ بجُلجلانِ
و لو حرك " خلط " اجتمع خمس حركات .
و القند : عصارة قصب السكر اذا جمد . و الجلجلان : حب الكزبراء ، و قيل هو السمسم
و من قولهم في تحريك الساكن :
اضرِبَ عنك الهموم طارقَها ... ضربَك بالسوط قونَس الفرس
نرى كيف حرك الفعل " اضربْ " و هو فعل أمر مبني على السكون .
و قونس الفرس : ما بين أذنيه . و البيت لطرفة بن العبد ، و قيل هو مصنوع عليه ، و قال ابن منظور ، أراد " اضربن " فحذف النون .
و أما صرف ما لا ينصرف عندهم فكثير . و القبيح عندهم ألا يصرف المنصرف ، و قد يستجاد في الشعر على قبحه . قال عباس بن مرداس ( و هو ابن الخنساء ) :
ما كان بدر و لا حابس ... يفوق مرداس في المجمع
........
خالد ع . خبازة
اللاذقية
من عدد من كتب التراث العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق