(التوازي الانفعالي الشعوري والرموز الأستعارية في النص الشعري )
قراءة نقدية لمجموعة (للذاكرة أزقة موحشة ) للشاعر لطيف الشمسي
عندما تأخذ الرؤيا البعد الوجداني ، تصبح النصوص الشعرية طاقة تصورية تقارب شعورية الذات المنتجة لها ، وهذا ما يجعلها مفعمة بالإيقاع لتوترات المركبة من تلاقح فضاءات الذات مع الفضاءات، التي تؤثر عليها نتيجة التصادم الذهني للحالات الشعورية في حسية المعنى، الذي يتكون داخل مفهومية التصور الإدراكي اتجاه الأشياء وهذا ما يحقق أنزياحات أسلوبية تأخذ بلاغة المعنى المتحقق من الوعي، والذي يؤشر رموز اللاوعي بتراكيبه المستبطنة من ملامسة الوجدان بمساحاته الواسعة، وفق ذائقة اكتشاف أسرار الذات، التي توحي بكل ما مر بداخلنا من مشاعر وأحاسيس، لتؤشر المؤثرات الخارجية التي تستنهض هذه الأحاسيس، التي تظهر على شكل رموز موحية بالرؤيا الفكرية التلقائية الذي يسعى الشاعر إلى تثبيتها من خلال نصوصه الشعرية ، أي أن هذه الرؤيا هي الوعي الذاتي بحدود هذه الإحساسات الخارجة من ذائقة الذات الواعية، والتي تبين حجم انعكاس الظواهر الخارجية التي تثير في كوامن النفس ، وهنا يختلف تدرج ظهورها حسب عمق المشاعر التي تمتلك هذه التصورات الذهنية، التي تصوغ هذه الكامن الخارج من الذات ضمن اللغة الموحية ورموزها ، والشعر هو الحالة المتقدمة من رموز الباطن داخلنا، والتي تظهر لدى الشاعر على شكل رؤيا لأنه يمتلك الحساسية المتقدمة من المشاعر، و يستطيع صياغتها وفق حضانته الفكرية الواعية، وضمن رموز اللغة التي بنت كل حالاته المعرفية منذ بداية تعلمه في الحياة من خلال الوعي الفكري الثقافي الاجتماعي ، وطبعا يظهر هذا الكامن فينا من خلال انعكاس حساسية الظروف حولنا ومقدار تأثيرها في دواخلنا، فيشكل ما ينعكس من الداخل الرؤيا وفق البنية الثقافية، التي تحدد معنى وقيمة المنعكس، أي أن الحالة الانعكاسية الذي تمثل عمق تأثرنا بما وحلنا ، ما هو إلا أترداد الكامن ضمن الصور، التي ثبت دواخلنا والمخزونة في اللاوعي فينا. ونجد الشاعر لطيف الشمسي في مجموعته (للذاكرة أزقة موحشة ) قد أستطاع أن يعبر عن هذا الكوامن بشفافية تلقائية واسعة الصورة الشعرية ، لأنه بني جملته الشعرية على مدارك الحس الوجداني ، ما أعطى إلى نصوصه صدق التعبير لمشاعره التي يستنهضها من أتساع مخيلته ، التي تمد رؤاه بقدرة عالية على تطابق رموزه مع رموز اللغة ، وهذا ما جعل نصوصه مفعمة بالأحاسيس التصورية بإيقاع اندماجي يحمل كل توترات ذاته الداخلية بمفردات تعطي لهذا الإيقاع روح تفاعلية مع المعنى الذي يريد أن يوصله إلى المتلقي ...
ص 7 نص (السراب)
(يشتتني هذا السراب.. /يقترب من رؤياي /ثم يتلاشى /أنا في ظمأ /لا يرحم /قوافل أحزاني /لا تحمل من متاع /الدرب /سوى سموم /الريح /وأنهارا /من الأوهام /لا ماء /لا واحة نستظل بظلها /لا ضوء نجمة /نستدل بنورها... /خطواتنا /ضاعت /في مفازات /الصحراء..../مازلنا نستدل /الدرب والبوصلة /عواء الذئاب. )
حين يكتب النص الشعري وفق أحساسات الصوت الداخلي يكون نص مفعم بحسية عالية للصور الشعورية ، التي يتحكم بصياغتها الوعي من خلال تداعي اللاوعي ، أي يكون النص الشعري تحسس وجداني ، مشترك مع النزعة الذهنية التي تخلق المحاجة الشعورية لتركب الصور حسب التصور الذهني ، وحسب التداعي الشعوري في وجدانية الفكرة النصية ، وطبعا هذا يعطي أبعاد تلقائية لصالح اللغة الصورية وحسب تسلسل المحسوسات الذاتية للشاعر . والشاعر لطيف هنا أستطاع أن يوصل المفردة اللغوية برمزيتها الحضورية ، إلى التمازج ما بين إحساسه ومشاعره المعبرة عن صوته الداخلي ، دون أن يتبعثر من تسلسل تعبيره عن الحالة، التي يعيشها ضمن تحسسه للمعنى الذي يريد أن يوصل له، والذي يميز نصوص الشاعر هو تواصله المستمر مع إحساسه الداخلي دون ترك المشاهد الخارجية لكي يعطيها دفق شعوري ، لأنها تشكل عنده سلسلة من المسميات الخارجية والتي تتطابق مع تصوره الداخلي ، فما بين السراب ورؤاه ظمأ وقوافل أحزان فكل هذه لا تحمل المتاع، و يحقق له الانفراج الذي يريده، فلا يجد غير سموم الريح، أي أن الخارج رغم تطابقه مع حسه الداخلي لكنه لا يحقق ما يريد منه أن يحققه باتجاه الحياة الذي يريد ، أي كل ما يراه في الحياة من مسميات المتطابقة بشكل كامل مع فكره الباطني لكنه لا يلبي طموحه في الحياة , رغم أنها من توجد له التأويل الأستعاري لمقاربة كل ما يريد أن يعيش ،وبين أن سبب قصور الذي يراه ليس بسبب مشاعره الداخلية بقدر ما هي المسميات الخارجية ، قد كشاف كل هذا من خلال التمازج ما بين المسميات و رموزه الذاتية (يشتتني هذا السراب.. /يقترب من رؤياي /ثم يتلاشى /أنا في ظمأ /لا يرحم /قوافل أحزاني /لا تحمل من متاع /الدرب /سوى سموم /الريح ) ويستمر الشاعر بتبيان ، رغم أنه متطابق مع المسميات ولكنها عاجزة عن تحقق ما يريد أن يوصل له من الحياة ، وقد تتحول كل هذه المسميات إلى أنهار من الأوهام، لهذا يحاول أن يجنب نفسه كل ما يراه، لأنها لا تشكل له المفازات التي يسعى لها ، أنها أصبحت دروب ليس فيها غير عواء الذئاب (وأنهارا /من الأوهام /لا ماء /لا واحة نستظل بظلها /لا ضوء نجمة /نستدل بنورها... /خطواتنا /ضاعت /في مفازات /الصحراء..../مازلنا نستدل /الدرب والبوصلة /عواء الذئاب. ) فكل شيء أصبح حوله غير واضح ،وحتى الليل فقد نجومه ، وهذا استدلال أهمية النجوم ، التي كانت يتخذها العرب دلالة الدروب التي عن طريقها يعرفون أي الطرق يسلكونها ، أي أصبح كل شيء فاقد المعنى وغير واضح لكي يسلك الطريق الذي يريد ،قد أستطاع الشاعر بواسطة المعنى الدلالي يحدد المعنى التأويلي لكل الرموز الذي حوله، التي هي بعيدة عن المعنى الذي يعيش بطريقة هادئة وشفافة ..
ص42 نص (غيمة صيف)
(الروح /في غيابك /غيمة صيف /حزينة.. /هاربة.. /من ظلها /لا تملك قطرة /مطر .. /الأيام /تركت على مفرقي /نثيث الثلج /مرايا /لوجهي /الذي أغتالته /تجاعيد السنين.. )
الشاعر هنا يحدد حالة الغياب، بعد أن حدد في النص السابق غياب المعنى في كل المسميات ، ولم يبق في الدروب سوى عواء الذئاب ، يرجع هنا ليبين غياب الحب بسبب غياب من نحب ، حيث تتحول الحياة حوله إلى رموز تأخذ أبعاد الحزن والغربة ، ويتخذ من رموز الطبيعة المعبرة عن إحساساته الداخلية ( غيمة صيف ، قطرة ، مطر) وقد أستطاع الشاعر يبني جملته الشعرية بهدوء وروية ، وهذا ما جعل كلماته ممتلئة بالمدلولات الشفافة المتوهجة بالمعنى الحسي ،حيث تتلاحم مع بعضها لتشكل صور بنية سيميائية ، تعطي الدلالة الصورية المقاربة لذهنية رؤاه التي تقارب ما يشعره من الداخل ، لهذا يتخذ منها الفعل المنعكس من داخله على معناها في الحياة (الروح /في غيابك /غيمة صيف /حزينة.. /هاربة.. /من ظلها /لا تملك قطرة /مطر .. /الأيام /تركت على مفرقي /نثيث الثلج ) فكل شيء تحول إلى جفاف وحتى الغيم تحول إلى غيم الصيف وهذه دلالة أن كل شيء تحول إلى عكس ما يريد، ولم يعد يرى الأشياء بمعناها بقدر ما يرى أن كل شيء تحول إلى حزن ولم يرثه إلا أحساس الغربة بكل معناه وسبب نثيث الثلج (الشيب) في رأسه ، كما يسبب له هذا الغياب تجاعيد السنين على وجهه (مرايا /لوجهي /الذي اغتالته /تجاعيد السنين.. ) أي أن الشاعر حقق الدلالة الرؤيوية بمعناها من خلال الانسجام الداخلي مع رموز الطبيعة ، وهذا ما جعل جمله الشعرية متماسكة في جوهرية المعنى، الذي أراد الشاعر أن يحققه من خلال مفرداته اللغوية ، التي تعطي المعنى الواضح الخالي من الغموض والإبهام ، بنفس الوقت تحمل أشارة تأويلية عالية الإحساس بالفكرة النصية المحققة الأنتباهات الرمزية في حقيقة الغياب وما يسببه حولنا من أحزان ...
ص 90 نص(قدرنا)
(كأن الدمع /فقد بوصلة /الطريق.. /إلى المآقي /والعيون أصابها الرمد /أرى القلب /مثقوب.. /وقطرات من الدم /تلون /وجه الطريق.. /لماذا... /طرقنا موبوءة /بالشجن /والمدن تنام /مع الغروب /تتوسد الآهات /والأنين................)
الشاعر هنا يطرح الأسباب التي تسبب الأحزان والغربة حوله ، وهنا يتخذ الحزن أشكال الدمع في المآقي ، لأن لم يعد هناك انفراج لكل هذه الأحزان ، وكأنها أصبحت الحالة المقدسة والملازمة لحياتنا ، والذي يميز نصوص الشاعر هي تلك الحرارة والصدق باكتشاف ما يؤثر على جوهر وجوده الإنساني ،وهي متوسدة الآهات والأنين ويتطور إلى حد تقوم بثقب القلب وهذا ما يجعله ينزف الدم ، أي أن هذه الأحزان سببت الألم الداخلي، بقدر ما سببت الظاهر من الدمع ، وهذا أشارة دلالية بالتصاقها داخل أحساسات ذاته من الداخل . والشاعر يريد أن يبني رؤاه حسب المؤثرات و الأفعال المنعكسة في تصوره الذهني من داخل مشاعره التي يعيش ، وهذا ما يحرك أحساسة الشعوري المركب من توهج الذات بمعناها، والتي تفجرها المرئيات التحسسية والتوترات التي تتكون على شكل دفق صوري من خلال المسميات الحضورية ورموزها الدلالية (كأن الدمع /فقد بوصلة /الطريق.. /إلى المآقي /والعيون أصابها الرمد /أرى القلب /مثقوب.. /وقطرات من الدم /تلون /وجه الطريق.. )نجد في هذه النصوص تفاعل المفردات اللغوية مع بعضها ، وما تشكل نسيج إيقاعي مؤثر ضمن صياغة المعنى الداخلي لها . وقد أستطاع أن يحقق الإشارة المعنوية ، من أجل أن يحقق الانفراج التأويلي في امتداد البؤرة النصية ، لكي يتحكم بالدالة و يكون المعنى بطريقة شفافية الانفعال ووضوحه مع كل الرموز التعبيرية ، أي أنه تلقائي ودون تكليف في أجاد المعنى وشفافيته داخل جملته وكما قال بشير بن المعتمر(أن يواتيه البيان من غير تكلف ، في أول وهلة، وأن يكون مقبولا ، وخفيفا على اللسان سهلا ، كما أخرج من ينبوعه ونجم عن معدنه ) ومن أجل أن يحصر هذه الأزمة التي تتفاعل معها ذاته ، يلقي السؤال (لماذا ) بعد أن عجز عن أيجاد الحل لكل ما يدور حوله من الألم والوجع ،وهذا سؤال ارتدادي كي يبعد نفسه عن كل هذا المخاض الذي يعيش ، أو من أجل أن يعيد موضعة ما يشعر به من حزن (/لماذا... /طرقنا موبوءة /بالشجن /والمدن تنام /مع الغروب /تتوسد الآهات /والأنين................) ، لأنه يشعر أن كل شيء موبوء بالحزن والشجن حتى الطرق والمدن تتوسد الآهات والأنين ، والشاعر حين أطلق هذا السؤال لكي ينأي نفسه عن هذا الشجن ويكون شاهد علية من الخارج ، لأنه وصل إلى حد اليأس من هذه الأحزان ، ويبقى يراقب هذه الآهات من أجل يشخص كل ما يحدث حوله بدل الانغماس فيها ، حيث هو أنتقل من الداخل ليؤكد أن كل ما يشعر به داخليا، ما هو إلا انعكاس لما يحيطه من أحداث ، لكي يبين كل المسميات ضمن المرئيات البصرية المحسوسة ، والتي ألتقطها من الخارج والمنعكسة على داخله، والتي هي السبب لكل ما يشعر به من الآهات ...
ص127 نص(المدينة)
(المدن.. تعشق الليل /ترتاح من ضجيج /هياكل الموتى /التي تتسكع في أزقتها /الموبوءة بالخرافات /المدن..تعشق الليل /تسترق السمع /على أحلام العشاق /الوردية... /وهمس هذيان الروح /في لحظة التجلي... /المدن..تعشقنا جميعا /لأننا دبيب الحياة /وصخبها /وصمتها.. /وفحيح الموت فيها... )
ويستمر الشاعر بنقل الحدث المكاني وما يحدث من تناظر مع شعوره الداخلي، فيشكل صوته الشعري المبني على تدرج مشهدية الحياة حوله، لكي يمسك إحساساته الشعورية ودلالاتها المنعكسة من الخارج ، لأن الاندماج مع الخارج دون نقل متوازي مع حسه الداخلي، يؤدي إلى تسطيح المعنى ويفقد مدلوله ، أي أن النص لدى الشاعر لطيف هو تمازج الخارج مع داخله ، ما يعطيه فضاء أفقي في بناء جملة مركبه من التكوين النص الأفقي الذي يستند على عمودية حسه الوجودي ،وهذا يؤدي إلى تحقيق التوازي الانفعالي الشعري برموز أستعارية ،أعطته ترتيب حسي الذي أوجد الدلالة المقاربة لمدلولها ، حيث يبدأ بالمكان ( المدن) دون يحدد أي مدن ، وهذا المدن تعشق الظلام إلى حد هياكل الموتى تتسكع في أزقتها، وهذه أشارة عالية من تصدعها وانطفائها ، وهذه أقصى حالات الغربة التي يعيشها الشاعر،، وهو يعتمد على البنية المفتوحة القابلة على التأويل المفتوح، وقد حقق هذا من خلال الإشارة إلى المدن دون تحدديها ، ونعرفها فقط من خلال تحديد المعنى الذي يتحرك داخلها دون أن يحدد من هذه المدن،وقد تولدت الدلالات من خلال الإشارة إليها دون التقرب منها، لكي يبعد نفسه من الاندماج معها، أي أنه حقق الدلالة بالإشارة إليها ((المدن.. تعشق الليل /ترتاح من ضجيج /هياكل الموتى /التي تتسكع في أزقتها /الموبوءة بالخرافات /المدن..تعشق الليل /تسترق السمع /على أحلام العشاق /الوردية...) بعد كل حدد دلالات هذه المدن الموبوءة بالخرافات ، يرجع يحاول أن يعطيها وجه مشرق، ولكنه في نفس الوقت يرجع ويعيدها إلى العمق الخفي من انعدام حركة الحياة فيها ، وتجلي الحياة الداخلية عنده وهمس هذيان الروح (وهمس هذيان الروح /في لحظة التجلي... /المدن..تعشقنا جميعا /لأننا دبيب الحياة /وصخبها /وصمتها.. /وفحيح الموت فيها... ) أي أن الشاعر يحاول أن يخرج من هذه الأزمة ، لكن لا يستطيع الانفكاك منها لأنها أزمة ثابتة في الحياة التي حوله ، ففحيح الموت فيها وعالق في حركتها في الحياة مثل ما يحدث من الموت المجاني والقتل المستمر فيها، وما يحدث فيها من تفجيرات تأخذ الكثير من أهلها ، رغم أن هذه المدن تحاول أن تخرج أزمتها هذه ، إلى الحياة الحقيقة ، لأن أهلها دبيب الحياة في صخبها وصمتها رغم علامات الموت الذي يحدث فيها ..
الشاعر استطاع أن يصل إلى مغزى عن طريق دلالات التي يتم عن طريقها تحقيق المنهج السيميائي، بعد أن كشف وظائف رمزية في النص ويعلن عنه من خلال مكونات الدلالية والمعنى، حيث أنه بقدر ما خلق نص علني بقي محتفظ بأنزياحات تخيليه، من خلال دلالة أحساسات الحزن، الذي يدور حوله والمدلول عليه ما يشعر به من الداخل، بهذا حقق ازدواج دلالي من خلال تحريك اللغة في تحويل الحدث الشعوري مع الحدث الزمنكاني وفق نسق إدراكي يسقط عليه انفعالاته ويشكل من هذه الانفعالات نص شعري محتدم بالرمز والإشارات اللغوية ضمن مخيلته الشعرية وعواطفه .
قراءة نقدية لمجموعة (للذاكرة أزقة موحشة ) للشاعر لطيف الشمسي
عندما تأخذ الرؤيا البعد الوجداني ، تصبح النصوص الشعرية طاقة تصورية تقارب شعورية الذات المنتجة لها ، وهذا ما يجعلها مفعمة بالإيقاع لتوترات المركبة من تلاقح فضاءات الذات مع الفضاءات، التي تؤثر عليها نتيجة التصادم الذهني للحالات الشعورية في حسية المعنى، الذي يتكون داخل مفهومية التصور الإدراكي اتجاه الأشياء وهذا ما يحقق أنزياحات أسلوبية تأخذ بلاغة المعنى المتحقق من الوعي، والذي يؤشر رموز اللاوعي بتراكيبه المستبطنة من ملامسة الوجدان بمساحاته الواسعة، وفق ذائقة اكتشاف أسرار الذات، التي توحي بكل ما مر بداخلنا من مشاعر وأحاسيس، لتؤشر المؤثرات الخارجية التي تستنهض هذه الأحاسيس، التي تظهر على شكل رموز موحية بالرؤيا الفكرية التلقائية الذي يسعى الشاعر إلى تثبيتها من خلال نصوصه الشعرية ، أي أن هذه الرؤيا هي الوعي الذاتي بحدود هذه الإحساسات الخارجة من ذائقة الذات الواعية، والتي تبين حجم انعكاس الظواهر الخارجية التي تثير في كوامن النفس ، وهنا يختلف تدرج ظهورها حسب عمق المشاعر التي تمتلك هذه التصورات الذهنية، التي تصوغ هذه الكامن الخارج من الذات ضمن اللغة الموحية ورموزها ، والشعر هو الحالة المتقدمة من رموز الباطن داخلنا، والتي تظهر لدى الشاعر على شكل رؤيا لأنه يمتلك الحساسية المتقدمة من المشاعر، و يستطيع صياغتها وفق حضانته الفكرية الواعية، وضمن رموز اللغة التي بنت كل حالاته المعرفية منذ بداية تعلمه في الحياة من خلال الوعي الفكري الثقافي الاجتماعي ، وطبعا يظهر هذا الكامن فينا من خلال انعكاس حساسية الظروف حولنا ومقدار تأثيرها في دواخلنا، فيشكل ما ينعكس من الداخل الرؤيا وفق البنية الثقافية، التي تحدد معنى وقيمة المنعكس، أي أن الحالة الانعكاسية الذي تمثل عمق تأثرنا بما وحلنا ، ما هو إلا أترداد الكامن ضمن الصور، التي ثبت دواخلنا والمخزونة في اللاوعي فينا. ونجد الشاعر لطيف الشمسي في مجموعته (للذاكرة أزقة موحشة ) قد أستطاع أن يعبر عن هذا الكوامن بشفافية تلقائية واسعة الصورة الشعرية ، لأنه بني جملته الشعرية على مدارك الحس الوجداني ، ما أعطى إلى نصوصه صدق التعبير لمشاعره التي يستنهضها من أتساع مخيلته ، التي تمد رؤاه بقدرة عالية على تطابق رموزه مع رموز اللغة ، وهذا ما جعل نصوصه مفعمة بالأحاسيس التصورية بإيقاع اندماجي يحمل كل توترات ذاته الداخلية بمفردات تعطي لهذا الإيقاع روح تفاعلية مع المعنى الذي يريد أن يوصله إلى المتلقي ...
ص 7 نص (السراب)
(يشتتني هذا السراب.. /يقترب من رؤياي /ثم يتلاشى /أنا في ظمأ /لا يرحم /قوافل أحزاني /لا تحمل من متاع /الدرب /سوى سموم /الريح /وأنهارا /من الأوهام /لا ماء /لا واحة نستظل بظلها /لا ضوء نجمة /نستدل بنورها... /خطواتنا /ضاعت /في مفازات /الصحراء..../مازلنا نستدل /الدرب والبوصلة /عواء الذئاب. )
حين يكتب النص الشعري وفق أحساسات الصوت الداخلي يكون نص مفعم بحسية عالية للصور الشعورية ، التي يتحكم بصياغتها الوعي من خلال تداعي اللاوعي ، أي يكون النص الشعري تحسس وجداني ، مشترك مع النزعة الذهنية التي تخلق المحاجة الشعورية لتركب الصور حسب التصور الذهني ، وحسب التداعي الشعوري في وجدانية الفكرة النصية ، وطبعا هذا يعطي أبعاد تلقائية لصالح اللغة الصورية وحسب تسلسل المحسوسات الذاتية للشاعر . والشاعر لطيف هنا أستطاع أن يوصل المفردة اللغوية برمزيتها الحضورية ، إلى التمازج ما بين إحساسه ومشاعره المعبرة عن صوته الداخلي ، دون أن يتبعثر من تسلسل تعبيره عن الحالة، التي يعيشها ضمن تحسسه للمعنى الذي يريد أن يوصل له، والذي يميز نصوص الشاعر هو تواصله المستمر مع إحساسه الداخلي دون ترك المشاهد الخارجية لكي يعطيها دفق شعوري ، لأنها تشكل عنده سلسلة من المسميات الخارجية والتي تتطابق مع تصوره الداخلي ، فما بين السراب ورؤاه ظمأ وقوافل أحزان فكل هذه لا تحمل المتاع، و يحقق له الانفراج الذي يريده، فلا يجد غير سموم الريح، أي أن الخارج رغم تطابقه مع حسه الداخلي لكنه لا يحقق ما يريد منه أن يحققه باتجاه الحياة الذي يريد ، أي كل ما يراه في الحياة من مسميات المتطابقة بشكل كامل مع فكره الباطني لكنه لا يلبي طموحه في الحياة , رغم أنها من توجد له التأويل الأستعاري لمقاربة كل ما يريد أن يعيش ،وبين أن سبب قصور الذي يراه ليس بسبب مشاعره الداخلية بقدر ما هي المسميات الخارجية ، قد كشاف كل هذا من خلال التمازج ما بين المسميات و رموزه الذاتية (يشتتني هذا السراب.. /يقترب من رؤياي /ثم يتلاشى /أنا في ظمأ /لا يرحم /قوافل أحزاني /لا تحمل من متاع /الدرب /سوى سموم /الريح ) ويستمر الشاعر بتبيان ، رغم أنه متطابق مع المسميات ولكنها عاجزة عن تحقق ما يريد أن يوصل له من الحياة ، وقد تتحول كل هذه المسميات إلى أنهار من الأوهام، لهذا يحاول أن يجنب نفسه كل ما يراه، لأنها لا تشكل له المفازات التي يسعى لها ، أنها أصبحت دروب ليس فيها غير عواء الذئاب (وأنهارا /من الأوهام /لا ماء /لا واحة نستظل بظلها /لا ضوء نجمة /نستدل بنورها... /خطواتنا /ضاعت /في مفازات /الصحراء..../مازلنا نستدل /الدرب والبوصلة /عواء الذئاب. ) فكل شيء أصبح حوله غير واضح ،وحتى الليل فقد نجومه ، وهذا استدلال أهمية النجوم ، التي كانت يتخذها العرب دلالة الدروب التي عن طريقها يعرفون أي الطرق يسلكونها ، أي أصبح كل شيء فاقد المعنى وغير واضح لكي يسلك الطريق الذي يريد ،قد أستطاع الشاعر بواسطة المعنى الدلالي يحدد المعنى التأويلي لكل الرموز الذي حوله، التي هي بعيدة عن المعنى الذي يعيش بطريقة هادئة وشفافة ..
ص42 نص (غيمة صيف)
(الروح /في غيابك /غيمة صيف /حزينة.. /هاربة.. /من ظلها /لا تملك قطرة /مطر .. /الأيام /تركت على مفرقي /نثيث الثلج /مرايا /لوجهي /الذي أغتالته /تجاعيد السنين.. )
الشاعر هنا يحدد حالة الغياب، بعد أن حدد في النص السابق غياب المعنى في كل المسميات ، ولم يبق في الدروب سوى عواء الذئاب ، يرجع هنا ليبين غياب الحب بسبب غياب من نحب ، حيث تتحول الحياة حوله إلى رموز تأخذ أبعاد الحزن والغربة ، ويتخذ من رموز الطبيعة المعبرة عن إحساساته الداخلية ( غيمة صيف ، قطرة ، مطر) وقد أستطاع الشاعر يبني جملته الشعرية بهدوء وروية ، وهذا ما جعل كلماته ممتلئة بالمدلولات الشفافة المتوهجة بالمعنى الحسي ،حيث تتلاحم مع بعضها لتشكل صور بنية سيميائية ، تعطي الدلالة الصورية المقاربة لذهنية رؤاه التي تقارب ما يشعره من الداخل ، لهذا يتخذ منها الفعل المنعكس من داخله على معناها في الحياة (الروح /في غيابك /غيمة صيف /حزينة.. /هاربة.. /من ظلها /لا تملك قطرة /مطر .. /الأيام /تركت على مفرقي /نثيث الثلج ) فكل شيء تحول إلى جفاف وحتى الغيم تحول إلى غيم الصيف وهذه دلالة أن كل شيء تحول إلى عكس ما يريد، ولم يعد يرى الأشياء بمعناها بقدر ما يرى أن كل شيء تحول إلى حزن ولم يرثه إلا أحساس الغربة بكل معناه وسبب نثيث الثلج (الشيب) في رأسه ، كما يسبب له هذا الغياب تجاعيد السنين على وجهه (مرايا /لوجهي /الذي اغتالته /تجاعيد السنين.. ) أي أن الشاعر حقق الدلالة الرؤيوية بمعناها من خلال الانسجام الداخلي مع رموز الطبيعة ، وهذا ما جعل جمله الشعرية متماسكة في جوهرية المعنى، الذي أراد الشاعر أن يحققه من خلال مفرداته اللغوية ، التي تعطي المعنى الواضح الخالي من الغموض والإبهام ، بنفس الوقت تحمل أشارة تأويلية عالية الإحساس بالفكرة النصية المحققة الأنتباهات الرمزية في حقيقة الغياب وما يسببه حولنا من أحزان ...
ص 90 نص(قدرنا)
(كأن الدمع /فقد بوصلة /الطريق.. /إلى المآقي /والعيون أصابها الرمد /أرى القلب /مثقوب.. /وقطرات من الدم /تلون /وجه الطريق.. /لماذا... /طرقنا موبوءة /بالشجن /والمدن تنام /مع الغروب /تتوسد الآهات /والأنين................)
الشاعر هنا يطرح الأسباب التي تسبب الأحزان والغربة حوله ، وهنا يتخذ الحزن أشكال الدمع في المآقي ، لأن لم يعد هناك انفراج لكل هذه الأحزان ، وكأنها أصبحت الحالة المقدسة والملازمة لحياتنا ، والذي يميز نصوص الشاعر هي تلك الحرارة والصدق باكتشاف ما يؤثر على جوهر وجوده الإنساني ،وهي متوسدة الآهات والأنين ويتطور إلى حد تقوم بثقب القلب وهذا ما يجعله ينزف الدم ، أي أن هذه الأحزان سببت الألم الداخلي، بقدر ما سببت الظاهر من الدمع ، وهذا أشارة دلالية بالتصاقها داخل أحساسات ذاته من الداخل . والشاعر يريد أن يبني رؤاه حسب المؤثرات و الأفعال المنعكسة في تصوره الذهني من داخل مشاعره التي يعيش ، وهذا ما يحرك أحساسة الشعوري المركب من توهج الذات بمعناها، والتي تفجرها المرئيات التحسسية والتوترات التي تتكون على شكل دفق صوري من خلال المسميات الحضورية ورموزها الدلالية (كأن الدمع /فقد بوصلة /الطريق.. /إلى المآقي /والعيون أصابها الرمد /أرى القلب /مثقوب.. /وقطرات من الدم /تلون /وجه الطريق.. )نجد في هذه النصوص تفاعل المفردات اللغوية مع بعضها ، وما تشكل نسيج إيقاعي مؤثر ضمن صياغة المعنى الداخلي لها . وقد أستطاع أن يحقق الإشارة المعنوية ، من أجل أن يحقق الانفراج التأويلي في امتداد البؤرة النصية ، لكي يتحكم بالدالة و يكون المعنى بطريقة شفافية الانفعال ووضوحه مع كل الرموز التعبيرية ، أي أنه تلقائي ودون تكليف في أجاد المعنى وشفافيته داخل جملته وكما قال بشير بن المعتمر(أن يواتيه البيان من غير تكلف ، في أول وهلة، وأن يكون مقبولا ، وخفيفا على اللسان سهلا ، كما أخرج من ينبوعه ونجم عن معدنه ) ومن أجل أن يحصر هذه الأزمة التي تتفاعل معها ذاته ، يلقي السؤال (لماذا ) بعد أن عجز عن أيجاد الحل لكل ما يدور حوله من الألم والوجع ،وهذا سؤال ارتدادي كي يبعد نفسه عن كل هذا المخاض الذي يعيش ، أو من أجل أن يعيد موضعة ما يشعر به من حزن (/لماذا... /طرقنا موبوءة /بالشجن /والمدن تنام /مع الغروب /تتوسد الآهات /والأنين................) ، لأنه يشعر أن كل شيء موبوء بالحزن والشجن حتى الطرق والمدن تتوسد الآهات والأنين ، والشاعر حين أطلق هذا السؤال لكي ينأي نفسه عن هذا الشجن ويكون شاهد علية من الخارج ، لأنه وصل إلى حد اليأس من هذه الأحزان ، ويبقى يراقب هذه الآهات من أجل يشخص كل ما يحدث حوله بدل الانغماس فيها ، حيث هو أنتقل من الداخل ليؤكد أن كل ما يشعر به داخليا، ما هو إلا انعكاس لما يحيطه من أحداث ، لكي يبين كل المسميات ضمن المرئيات البصرية المحسوسة ، والتي ألتقطها من الخارج والمنعكسة على داخله، والتي هي السبب لكل ما يشعر به من الآهات ...
ص127 نص(المدينة)
(المدن.. تعشق الليل /ترتاح من ضجيج /هياكل الموتى /التي تتسكع في أزقتها /الموبوءة بالخرافات /المدن..تعشق الليل /تسترق السمع /على أحلام العشاق /الوردية... /وهمس هذيان الروح /في لحظة التجلي... /المدن..تعشقنا جميعا /لأننا دبيب الحياة /وصخبها /وصمتها.. /وفحيح الموت فيها... )
ويستمر الشاعر بنقل الحدث المكاني وما يحدث من تناظر مع شعوره الداخلي، فيشكل صوته الشعري المبني على تدرج مشهدية الحياة حوله، لكي يمسك إحساساته الشعورية ودلالاتها المنعكسة من الخارج ، لأن الاندماج مع الخارج دون نقل متوازي مع حسه الداخلي، يؤدي إلى تسطيح المعنى ويفقد مدلوله ، أي أن النص لدى الشاعر لطيف هو تمازج الخارج مع داخله ، ما يعطيه فضاء أفقي في بناء جملة مركبه من التكوين النص الأفقي الذي يستند على عمودية حسه الوجودي ،وهذا يؤدي إلى تحقيق التوازي الانفعالي الشعري برموز أستعارية ،أعطته ترتيب حسي الذي أوجد الدلالة المقاربة لمدلولها ، حيث يبدأ بالمكان ( المدن) دون يحدد أي مدن ، وهذا المدن تعشق الظلام إلى حد هياكل الموتى تتسكع في أزقتها، وهذه أشارة عالية من تصدعها وانطفائها ، وهذه أقصى حالات الغربة التي يعيشها الشاعر،، وهو يعتمد على البنية المفتوحة القابلة على التأويل المفتوح، وقد حقق هذا من خلال الإشارة إلى المدن دون تحدديها ، ونعرفها فقط من خلال تحديد المعنى الذي يتحرك داخلها دون أن يحدد من هذه المدن،وقد تولدت الدلالات من خلال الإشارة إليها دون التقرب منها، لكي يبعد نفسه من الاندماج معها، أي أنه حقق الدلالة بالإشارة إليها ((المدن.. تعشق الليل /ترتاح من ضجيج /هياكل الموتى /التي تتسكع في أزقتها /الموبوءة بالخرافات /المدن..تعشق الليل /تسترق السمع /على أحلام العشاق /الوردية...) بعد كل حدد دلالات هذه المدن الموبوءة بالخرافات ، يرجع يحاول أن يعطيها وجه مشرق، ولكنه في نفس الوقت يرجع ويعيدها إلى العمق الخفي من انعدام حركة الحياة فيها ، وتجلي الحياة الداخلية عنده وهمس هذيان الروح (وهمس هذيان الروح /في لحظة التجلي... /المدن..تعشقنا جميعا /لأننا دبيب الحياة /وصخبها /وصمتها.. /وفحيح الموت فيها... ) أي أن الشاعر يحاول أن يخرج من هذه الأزمة ، لكن لا يستطيع الانفكاك منها لأنها أزمة ثابتة في الحياة التي حوله ، ففحيح الموت فيها وعالق في حركتها في الحياة مثل ما يحدث من الموت المجاني والقتل المستمر فيها، وما يحدث فيها من تفجيرات تأخذ الكثير من أهلها ، رغم أن هذه المدن تحاول أن تخرج أزمتها هذه ، إلى الحياة الحقيقة ، لأن أهلها دبيب الحياة في صخبها وصمتها رغم علامات الموت الذي يحدث فيها ..
الشاعر استطاع أن يصل إلى مغزى عن طريق دلالات التي يتم عن طريقها تحقيق المنهج السيميائي، بعد أن كشف وظائف رمزية في النص ويعلن عنه من خلال مكونات الدلالية والمعنى، حيث أنه بقدر ما خلق نص علني بقي محتفظ بأنزياحات تخيليه، من خلال دلالة أحساسات الحزن، الذي يدور حوله والمدلول عليه ما يشعر به من الداخل، بهذا حقق ازدواج دلالي من خلال تحريك اللغة في تحويل الحدث الشعوري مع الحدث الزمنكاني وفق نسق إدراكي يسقط عليه انفعالاته ويشكل من هذه الانفعالات نص شعري محتدم بالرمز والإشارات اللغوية ضمن مخيلته الشعرية وعواطفه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق