لغتنا الجميلة
في الشعر و قواعده .. الضرورات و الجوازات
القسم الثاني
كنا تحدثنا في القسم الأول أنه اذا أخذ الآخر ( الشاعر أو الأديب ) من الأول المعنى ، فزاد فيه ما يحسنه و يقربه و يوضحه ، فهو أولى به من الأول .
كما تحدثنا انه لا يجوز للشاعر اللحن في اللغة سواءء فيي نص البيت أو في قافيته .
نتابع ف بحثنا اليوم ما تعلق بالضرورات و الجوازات ز
اعتبر العرب انه ..
مما لا يجوز للمولدين الاقتداء به ، و لا العمل عليه ، لأنه لحن فاحش .. الاقواء في القافية .. و ذاك أن يعمل الشاعر بيتا مرفوعا ، و آخر مجرورا ، كقول النابغة الذبياني :
أمن آل مية رائـح أم مغتدي ... عجــلان ذا زاد و غير مزوَّدِ
زعم البوارح أن رحلتنا غدا ... و بذاك خبّرنا الغرابُ الأسودُ
و من المستغرب ، كيف ذهب ذلك عن النابغة ، مع حسن نقده للشعر ، و صحة ذوقه و ادراكه لغوامض أسراره ، و نعلم ما أخذه على حسان بن ثابت ، مما تحار الأفكار فيه . و لما نُبِّهَ على موضع الخطأ ، لم يصل الى فهمه و لم يأبَه له ، حتى غنت به قينة وهو حاضر ، و لما مددت جملة " خبرنا الغراب الأسود " ، و بينت الضمة في الأسود بعد الدال المكسورة في البيت السابق ، فطن لذلك ، و علم أنه مقوٍ في البيت المذكور ، مما دفعه الى القول :
" و بذاك تنعاب الغرابِ الأسودِ " .
و كقول مزرد بن ضرار في أبيات :
ألم تعلم الثُّعلاءُ لا درّ درُّها ... فزارة أن الحق للضيف واجبُ
و منه :
تشازرت فاستشرفته ، فرأيته ... فقلت له آ أنت زيدُ الأرانبِ
و كقول حسان بن ثابت :
لا بأس بالقوم من طول و من قصر ... جسم البغال ، و احلام العصافيرِ
كأنهم قصبٌ جــــوفٌ أسافلـــــــــــه ... مثقب .. نفخت فيــــه الأعاصيرُ
فكسرفي البيت الأول .. و رفع في الثاني
و لا يكون النصب مع الجر ، و لا مع الرفع في الاقواء ، و الجميع لحن مردود ، و لم يرد عن العرب شيء من ذلك .
و ليس للمقيد مجرى ، و انما هو للمطلق ، و يظن أن من ارتكب الاقواء من العرب ، لم يكن ينشد مطلقا ، بل ينشده مقيدا ، و يقف على قافيته ، كقول دريد بن الصمة :
نظرت اليه و الرماح تنوشه ... كوقع الصياصي في النسيج الممددْ
فأرهبت عنه القوم حتى تبددو ... و حتى علاني حالك اللون اسودْ
و في المطلق فهو عذر مقبول .
و مما لا يجوز للمولدين استعماله ، و لا ورد لأحد رخصة في مثله .. " الاكفاء " .. و هو اختلاف حرف الروي ، و مثال ذلك قول الراجز :
برني ان البِرّ شيء هِينُ ... المنطق الطيب و الطعيمُ
نلاحظ هنا حرف النون في " هين " و حرف الميم في " الطعيم "
و قول آخر :
ان يأتني لص ، فاني لصُّ ... أطلس مثل الذئب اذ يعتسُّ
سوقي حداثي ، و صفير النسُّ
و مما لا يجوز للمولد أيضا " الايطاء "
وهو أن يقفي الشاعر بكلمة في بيت ، ثم يأتي بها في بيت أخر يكون قريبا من الأول ، فان تباعد ما بين البيتين بما قدره عشرة أبيات فصاعدا " و بعضهم يعتبرها سبعة أبيات " ، كان الذنب مغفورا، و العيب مستورا ، و انتثل من المحظور الى الكراهية .. فان كانت احدى القافيتين نكرة ، و الأخرى معرفة ، فقد زالت الكراهية ، و كان الى الجواز أقرب من الامتناع .
و قد أوطأت العرب كثيرا .. قال النابغة الذبياني :
أو أضع البيت في خرساء مظلمة ... تقيد العير لا يسري بها الساري
ثم قال بعد أبيات يسيرة :
لا يخقض الرز عن أرض ألمّ بها ... و لا يضل على مصباحه الساري
و قال ابن مقبل :
أو كاهتزاز رديني تداوله ... أيدي التجار فزادوا متنه لينا
ثم قال بعد أبيات :
نازعت ألبابها لي بمقتصر ... من الأحاديث حتى زدتني لينا
و مما لا يجوز للمولد استعماله ، السناد ، وهو اختلاف حركة الحرف ما قبل حركة الروي ، كقول عمرو بن الأهتم التغلبي :
ألم تر أن تغلب أهــل عز ... جبـــال معاقل ما يرتقَينا
شربنا من دماء بني سليم ... بأطراف القنا حتى روِينا
ففتحة القاف ، و كسرة الواو ، سناد لا يجوز .. لأن أحد الحذوين يتابع الردف ، و الآخر يخالفه . و قد أجاز الخليل الضمة مع الكسرة ، و منع الضمة مع الفتحة ، فان كان مع الفتحة ضمة أو كسرة ، كان سنادا ، فأما الذي جوّزه ، فكقول طرفة :
أرث العين خيال لم يقِرْ ... عاف و الركب بصحراء يسُرْ
فهذه ضمة مع كسرة و هو جيد ، و أما الذي منع منه و ذكر أنه سناد ، فكقول رؤبة :
و قاتم الأعماق خاوي المخترَقْ
ثم قال :
ألف شتى ليس بالراعي الحمِقْ
فجمع بين الفتحة و الكسرة . ثم قال :
مضبورة فرواء هرجاب فُنـُقْ
فأتى بالضمة مع الفتحة و الكسرة ، و هو سناد قبيح لا يجوز استعمال مثله ، . و مثله في القبح مع الجمع بين الكسرة و الفتحة و الضمة ، قول الأعشى :
غزاتك بالخيل أرض العَدْ ... و في اليوم من غزوة لم تحِـمْ
و جيشهم ينظرون الصبا ... ح و جـــذعانها كلفيظ العجَـــم
قعودا بمـــا كان من لأمة ... و هـــن قيـــام يلُــكنَ اللُّجُـــــم
و حكي : أن الأخفش " صاحب كتاب " القوافي " .. لم يكن يرى ذلك سنادا ، و يقول : قد كثر مجيء ذلك من فصحاء العرب .
و المعوّل على ما قاله الخليل ، لا غير .
و أجاز الخليل مجيء الياء مع الواو ، في مثل " مشيب و خطوب " و " أمير ووعور " ، فان أردفت بيتا و تركت آخر ، فهو سناد و عيب لا ينسج على منواله ، كقول الشاعر :
اذا كنت في حاجة مرسلا ... فأرسل حكيما و لا توصه
و ان باب أمر عليك التوى ... فشاور لبيبا و لا تعصـه
نلاحظ أن في لفظة " توصه " في البيت الأول حرف الواو هو الردف ، و الصاد حرف الروي ، و البيت الثاني ليس بمردف .. فهذا سناد.. وهو عيب قبيح قلما جاء .
و قال الخليل بن احمد :
رتبت البيت من الشعر ، ترتيب البيت من الشَّعر ، يريد الخباء ، قال : فسميت الاقواء ، ما جاء من المرفوع من الشعر ، و المخفوض على قافية واحدة . و انما سميته اقواء ، لمخالفته ، لأن العرب تقول : أقوى الفاتل ، اذا جاءت قوة من الحبل ، تخالف سائر القوى .
قال : و سميت تغير ما قبل حرف الروي سنادا ، من مساندة بيت الى بيت اذا كان كل واحد منها ملقى على صاحبه ، ليس هو مستويا كهذا .
قال : و سميت الاكفاء ما اضطرب حرف رويه ، فجاء مرة نونا و مرة ميما و مرة لاما ، و تفعل العرب ذلك ، لقرب مخرج الميم من النون .
و أما التضمين ، فهو أن يبنى البيت على كلام يكون معناه في بيت يتلوه من بعده ، مقتضيا له . كقول الشاعر .
و سعد ، فسائلْهُمُ و الربابُ ... و سائلْ هوازن عن اذا ما
لقينـــاهُمُ كيف تعــــــــلوهُمُ ... بواترُ يقربن بيضا و هاما
و كل هذه العيوب لا يجوز للمولدين ارتكابها ، لأنهم قد عرفوا قبحها ، و شاهدوا في غيرهم لذعها و لفحها .. و البدوي لم يأبه لها .
و مما لا يجوز للمولد استعماله ، كسر نون الجمع ، في مثل قول جرير :
عرينٌ من عُرَينة ليس منا ... برئت الى عرينة من عرين
عرفنا جعفرا و بني عبيد ... و أنكرنا زعانف آخـــــــرينِ
و هذا لحن ، و صوابه آخرينا .
و قال سحيم بن وثيل :
عذرت البُذْل ان هي خاطرتني ... فما بالي و بال ابني لبونِ
و ماذا يدَّري الشعراء مني ... و قد جاوزت رأس الأربـعينِ
و الصواب فتح نون الأربعين .
و قال الفرزدق يخاطب الحجاج بن يوسف ، لما أتاه نعي أخيه ، في اليوم الذي مات فيه ابنه محمد :
اني لباك على ابني يوسف جزعا ... و مثل فقدهما للدين يبكيني
ما سدَّ حي ولا ميت مسدهما ... الا الخــــــلائف من بعد النبيينِ
فكسر نون النبيين ، و الصواب فتحها .
و كل هذا لا يحوز للمولد الحذو عليه ، و لا الاحتجاج به ، و لذلك يقول السيد الحميري :
و ان لساني مقـــــوَلٌ لا يخـــونني ... و اني لما آتي من الأمــر متقنُ
أحوك و لا أقوي ، و لست بلاحن ... و كم قائل للشعر يقوي و يلحن
و قال عدي بن الرقاع :
و قصيدةٍ قد بتُّ أجمعُ بينها ... حتى أقوم ميلها و سنادها
نظر المثقٍّف في كعوب قناته ... حتى يقيم ثقافه منــــآدها
و أنشد أبو بكر الصولي قال : أنشدني عون بن محمد الكندي ، لبعضهم و ملح :
لقد كان في عينيك يا عمرو شاغل ... و أنفٌ كثيــــل العَوْد عما تتبع
تتبعت لحنــــا في كـــــلام مرقّش ... ووجهك مبني على اللحن أجمع
فعينــاك اقواء .. و أنفك مكفـــــأ ... ووجهك اسناد .. و أنت المرقع
و يروى :
أذناك اقواء و أنفك مكفأ ... و عيناك ايطاء ، و أنت المرقع
و قال ابن جريج في سوّار بن أبي شُراعة :
و ذكرك في الشعر مثل السنا ... د و الخرم و الخزم أو كالمحالِ
و ايطاء شعر و اكفاؤه ... و اقواؤه دون ذكر الرُّذال
و ما عيب شعر بعيب له ... كأن يبتلى برجال السّفال
يتاح الهجاء لهاجي الهجا ... ء داء عضال لداء عضال
و قد أوردنا هذه لموضع استقباح عيوبها ، و تشبيه أحوال المهجو به ، تأكيدا لقبحها في النفس ، و تحريضا على اجتنابها لرفع اللبس .
................
خالد ع . خبازة
اللاذقية
المراجع : عدد من كتب التراث
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق