الجمعة، 9 أكتوبر 2020

لغتنا الجميلة في الشعر و الأوزان الشعرية // الشاعر خالد خبازة

 لغتنا الجميلة

في الشعر و الأوزان الشعرية 

 

البحث الرايع عشر

· كنا تحدثنا في البحث السابق الارتجال و الفرق بينه و بين البديهة .. ة تكلمنا عن الارتجال و ضربنا أمثله له من أشعار الأقدمين ,, و قلنا ان الارتجال ما كان انهمارا و تدفقا ، لا يتوقف فيه قائله .. و نبحث الأن في :

البديهة :

أما البديهة فبعد ان يفكر الشاعر يسيرا ، و يكتب سريعا ان حضرت آلة ،. الا أنه غير بطيء و لا متراخ . فان أطال حتى يفرط ، أو قام من مجلسه ، لم يعد بديها .

قيل : اجتمع الشعراء عند الرشيد فقال :

من يجيز هذا القسيم و له حكمه ؟ قالوا : ما هو يا أمير المؤمنين ؟

قال : الملك لله وحده

فقال الجماز :

و للخليفة بعده

و للمحب اذا ما ... حبيبه بات عنده

فقال : أحسنت و أتيت على ما في نفسي . و أمر له بعشرة آلاف درهم .

و من عجيب ما روي في البديهة .. عندما أنشد أبو تمام أحمد بن المعتصم بحضرة فيلسوف العرب ، أبي يوسف يعقوب بن اسحق بن الصباح الكندي :

اقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم احنف في ذكاء اياس

فقال له الكندي : ما صنعت شيئا ! . شبهت ابن أمير المؤمين وولي عهد المسلمين بصعاليك العرب . فأطرق أبو تمام يسيرا ثم قال :

لا تنكروا ضربي له مَن دونَه ... مثلا شرودا في الندى و الباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلا من المشكاة و النبراس

فهذا أيضا و ما شاكله هو البديهة .

و كان أبو الطيب كثير البديهة و الارتجال .

و البديهة أحيانا .. هي كما قال ابن الرومي :

نار الروية نار جد منضجة ... و للبديهة نار ذات تلويحِ

و قد يفضلها قوم لسرعتها ... لكنها سرعة تمضي مع الريح

و القول بعد الفكر يؤمن زيغه ... شتان بين روية و بديه

و من الشعراء من شعره في رويته و بديهته سواء عند الأمن و الخوف ، لقدرته و سكون جأشه و قوة غريزته ، كهدبة بن الخشرم العذري ، و طرفة بن العبد البكري ، و مرة بن محكان السعدي ، اذ يقول و قد أمر مصعب بن الزبير رجلا بقتله :

 

بني أسد ان تقتلوني تحاربوا ... تميما ، اذا الحرب العوان اشمعلتِ

و لست و ان كانت الي حبيبة ... بباك على الدنيا اذا ما تولت

و هذا شعر لو أن قائلة تروى فيه حولا كاملا ، على أمن و دعة و فرط شهوة ، أو شدة حمية ، لما أتى فوق ذلك .

و كذلك عبد يغوث بن صلاءة و طرفة بن العبد لما أيقن بالموت :

أبا منذر كانت غرورا صحيفتي ... و لم أعطكم بالطوع مالي و لا عرضي

أبا منذر أفنيت فاستبقِ بعضَنا ... حنانيك .. بعض الشر أهون من بعض

و عبيد بن الأبرص ، اذ يقول له النعمان يوم بؤسه :

أنشدني ! فقال : حال الجريض دون القريض .

فقال : أنشدني قولك :

 

أقفر من أهله ملحوب ... فالقطيبات فالذنوب

فقال : لا و لكن 

 

أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي و لا يعيد

فبلغت به حال الجزع الى مثل هذا القول . على أن في بيت طرفة بعض الضراعة .

و ممن وجد نفسه عند احاطة الموت به ، تميم بن جميل السدوسي ، فانه القائل بين يدي المعتصم و قد قدم السيف و النطع لقتله : 

 

 أرى الموت بين السيف و النطع كامنا... يلاحظني من حيثمــــا أتلفت

وأكبر ظني أنك اليوم قاتــــــــــــلي ... وأي امرئ مما قضى الله يفلت

ومن ذا الذي يدلي بعــــــذر و حجة ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت

وما جزعي من أن أموت وانني ... لآعلم أن الموت شيء مؤقت

ولكن خلفي صيية قد تركتهم ... و أكبادهم من حسرة تتفتت

كأني أراهم حين أنعى اليهم ... وقد خمشوا تلك الوجوه و صوتوا

فان عشت، عاشوا خاقضين بغبطة  ... أذود الردى عنهم ، وان مت موتوا

فكم قائل , لا أبعد الله داره ... و آخر جذلان ، يسر و يشمت

 

 فتبسم المعتصم وقال :

كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل ، فقد غفرنا لك الصبوة ، ووهبناك للصبية ، ثم أمر بفك قيوده و خلع عليه ، وعقد له بشاطئ الفرات.

و كذلك  علي بن الجهم و قد صلب عريانا :

لم ينصبوا بالشاذياخ عشية الــ ...اثنين مغلولا و لا مجهولا

نصبوا بحمد الله ملء عيونهم ... حسنا و ملء قلوبهم تبجيلا

ما ضره ان بز عنه ثيابه ... فالسيف أهول ما يرى مسلولا

و هذا من جزل الكلام ، لا سيما في هذا المقام . و كان علي من الفضلاء علما بالشعر

و صناعة له . 

و قيل ان علي بن الجهم قال عندما جاء رسول برأس اسحق بن اسماعيل الى المتوكل :

أهلا و سهلا بك من رسولِ ... جئت بما يشفي من الغليلِ

برأس اسحق بن اسماعيلِ

فقال المتوكل : قوموا التقطوا هذا الجوهر لا يضيع .

و اشتقاق البديهة من بده ، بمعنى بدأ ، أبدلت الهمزة هاء , كما أبدلت في أشياء كثيرة .

و الارتجال مأخوذ من السهولة و الانصباب . و منه قيل : شعر رجل ، اذا كان سبطا مسترسلا غير جعد .

و قيل : هو من ارتجال البئر ، وهو أن ينزلها المرء راجلا من غير حبل . 

 

و أخيرا .. ارى برأيي المتواضع .. أنه ليس هناك من فارق كبير بين البديهة و الارتجال .

 

نكتفي بهذا المقدار .. راجيا أن أكون أوصلت المراد

........

خالد ع . خبازة

اللاذقية

من عدد من كتب التراث العربي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق