لغتنا الجميلة
في الشعر و الأوزان الشعرية
البحث الرايع عشر
· كنا تحدثنا في البحث السابق الارتجال و الفرق بينه و بين البديهة .. ة تكلمنا عن الارتجال و ضربنا أمثله له من أشعار الأقدمين ,, و قلنا ان الارتجال ما كان انهمارا و تدفقا ، لا يتوقف فيه قائله .. و نبحث الأن في :
البديهة :
أما البديهة فبعد ان يفكر الشاعر يسيرا ، و يكتب سريعا ان حضرت آلة ،. الا أنه غير بطيء و لا متراخ . فان أطال حتى يفرط ، أو قام من مجلسه ، لم يعد بديها .
قيل : اجتمع الشعراء عند الرشيد فقال :
من يجيز هذا القسيم و له حكمه ؟ قالوا : ما هو يا أمير المؤمنين ؟
قال : الملك لله وحده
فقال الجماز :
و للخليفة بعده
و للمحب اذا ما ... حبيبه بات عنده
فقال : أحسنت و أتيت على ما في نفسي . و أمر له بعشرة آلاف درهم .
و من عجيب ما روي في البديهة .. عندما أنشد أبو تمام أحمد بن المعتصم بحضرة فيلسوف العرب ، أبي يوسف يعقوب بن اسحق بن الصباح الكندي :
اقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم احنف في ذكاء اياس
فقال له الكندي : ما صنعت شيئا ! . شبهت ابن أمير المؤمين وولي عهد المسلمين بصعاليك العرب . فأطرق أبو تمام يسيرا ثم قال :
لا تنكروا ضربي له مَن دونَه ... مثلا شرودا في الندى و الباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلا من المشكاة و النبراس
فهذا أيضا و ما شاكله هو البديهة .
و كان أبو الطيب كثير البديهة و الارتجال .
و البديهة أحيانا .. هي كما قال ابن الرومي :
نار الروية نار جد منضجة ... و للبديهة نار ذات تلويحِ
و قد يفضلها قوم لسرعتها ... لكنها سرعة تمضي مع الريح
و القول بعد الفكر يؤمن زيغه ... شتان بين روية و بديه
و من الشعراء من شعره في رويته و بديهته سواء عند الأمن و الخوف ، لقدرته و سكون جأشه و قوة غريزته ، كهدبة بن الخشرم العذري ، و طرفة بن العبد البكري ، و مرة بن محكان السعدي ، اذ يقول و قد أمر مصعب بن الزبير رجلا بقتله :
بني أسد ان تقتلوني تحاربوا ... تميما ، اذا الحرب العوان اشمعلتِ
و لست و ان كانت الي حبيبة ... بباك على الدنيا اذا ما تولت
و هذا شعر لو أن قائلة تروى فيه حولا كاملا ، على أمن و دعة و فرط شهوة ، أو شدة حمية ، لما أتى فوق ذلك .
و كذلك عبد يغوث بن صلاءة و طرفة بن العبد لما أيقن بالموت :
أبا منذر كانت غرورا صحيفتي ... و لم أعطكم بالطوع مالي و لا عرضي
أبا منذر أفنيت فاستبقِ بعضَنا ... حنانيك .. بعض الشر أهون من بعض
و عبيد بن الأبرص ، اذ يقول له النعمان يوم بؤسه :
أنشدني ! فقال : حال الجريض دون القريض .
فقال : أنشدني قولك :
أقفر من أهله ملحوب ... فالقطيبات فالذنوب
فقال : لا و لكن
أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي و لا يعيد
فبلغت به حال الجزع الى مثل هذا القول . على أن في بيت طرفة بعض الضراعة .
و ممن وجد نفسه عند احاطة الموت به ، تميم بن جميل السدوسي ، فانه القائل بين يدي المعتصم و قد قدم السيف و النطع لقتله :
أرى الموت بين السيف و النطع كامنا... يلاحظني من حيثمــــا أتلفت
وأكبر ظني أنك اليوم قاتــــــــــــلي ... وأي امرئ مما قضى الله يفلت
ومن ذا الذي يدلي بعــــــذر و حجة ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت
وما جزعي من أن أموت وانني ... لآعلم أن الموت شيء مؤقت
ولكن خلفي صيية قد تركتهم ... و أكبادهم من حسرة تتفتت
كأني أراهم حين أنعى اليهم ... وقد خمشوا تلك الوجوه و صوتوا
فان عشت، عاشوا خاقضين بغبطة ... أذود الردى عنهم ، وان مت موتوا
فكم قائل , لا أبعد الله داره ... و آخر جذلان ، يسر و يشمت
فتبسم المعتصم وقال :
كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل ، فقد غفرنا لك الصبوة ، ووهبناك للصبية ، ثم أمر بفك قيوده و خلع عليه ، وعقد له بشاطئ الفرات.
و كذلك علي بن الجهم و قد صلب عريانا :
لم ينصبوا بالشاذياخ عشية الــ ...اثنين مغلولا و لا مجهولا
نصبوا بحمد الله ملء عيونهم ... حسنا و ملء قلوبهم تبجيلا
ما ضره ان بز عنه ثيابه ... فالسيف أهول ما يرى مسلولا
و هذا من جزل الكلام ، لا سيما في هذا المقام . و كان علي من الفضلاء علما بالشعر
و صناعة له .
و قيل ان علي بن الجهم قال عندما جاء رسول برأس اسحق بن اسماعيل الى المتوكل :
أهلا و سهلا بك من رسولِ ... جئت بما يشفي من الغليلِ
برأس اسحق بن اسماعيلِ
فقال المتوكل : قوموا التقطوا هذا الجوهر لا يضيع .
و اشتقاق البديهة من بده ، بمعنى بدأ ، أبدلت الهمزة هاء , كما أبدلت في أشياء كثيرة .
و الارتجال مأخوذ من السهولة و الانصباب . و منه قيل : شعر رجل ، اذا كان سبطا مسترسلا غير جعد .
و قيل : هو من ارتجال البئر ، وهو أن ينزلها المرء راجلا من غير حبل .
و أخيرا .. ارى برأيي المتواضع .. أنه ليس هناك من فارق كبير بين البديهة و الارتجال .
نكتفي بهذا المقدار .. راجيا أن أكون أوصلت المراد
........
خالد ع . خبازة
اللاذقية
من عدد من كتب التراث العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق